ما مدى صحة الانتقادات الموجهة ضد الحليب ؟ وهل سيصمد أمام الحملات المناهضة له ؟
في حين تعلو موجة الاتهامات ضد حسنات الحليب ومشتقاته ، يصر آخرون على ضرورته للحفاظ على صحة جيدة . فإلى أين وصل الجدل الحاد القائم بشأن الحليب ؟
شهدت السنوات القليلة الماضية العديد من الأصوات التي تدعوا المستهلكين الأميركيين إلى الإقلاع عن تناول الحليب ، وتقوم مجموعة كبيرة من خبراء التغذية بإقناع الرأي العام بأن الحليب ، الذي طالما ساد الإعتقاد بأنه ضروري للصحة ، يسبب السرطان وأمراض القلب والسكري والسمنة ، بالإضافة إلى لائحة طويلة من الأمراض الأخرى على سبيل المثال تقوم إحدى المجموعات الناشطة في هذا المجال ، تعرف بلجنة الفيزيائيين للطب المسؤول ، بإلقاء اللوم على مشتقات الحليب الأمراض ، بدءاً من سرطان المبيضين وانتهاءً بالأطفال المصابين بمغص البطن .موقع طرطوس
وتقوم منظمة أخرى تعمل من أجل العلاج الأخلاقي للحيوانات PETA بحملات إعلانية وترسل أعضاءها إلى المدارس في زي بقرة ، في محاولة لإقناع الأطفال بأن شرب الحليب سيجعلهم سمينين مثل الأبقار . ويصف أحد المتشددين جداً ضد الحليب روبرت لوهين هذا السائل بأنه ” السم الفتاك ” ، ويروي في كتابه العديد من الإثباتات التي يدعم فيها موقفه ضد الحليب . موقع طرطوس
ولكن مقابل جميع هذه الإدعاءات الحديثة ، ثمة أمور راسخة في التاريخ . واعتماد هذا الغذاء ليس وليد اليوم ، فالبشر يشربون الحليب ويأكلون مشتقاته منذ حوالي 4 آلاف عام قبل الميلاد . وفي السنوات الأخيرة الماضية كانت رسالة الطب واضحة ، خصوصاً دعوة النساء لتناول المزيد من الحليب الغني بالكالسيوم كوسيلة لتجنّب ترقق العظام ، وهو حالة من ضعف العظام تصب 28 مليون شخص في الولايات المتحدة الأميركية وحدها . فهل تكون هذه الرسالة رسالة خاطئة ، كما تريدنا الرابطة المناهضة للحليب أن نعتقد ؟موقع طرطوس
من المنطقي جداً أن لا نأخذ جميع هذه الانتقادات على محمل الجد بما أنها تأتي عن مجموعات ، فمن الواضح أنها تأتي عن مجموعات ، فمن الواضح أنها تدفع باتجاه معين مثل الغذاء النباتي أو احترام الحيوانات وتطبيق حقوقها . ولكن هذا لا يعني أن بعض الأبحاث الموثوق بها لم تثر أسئلة جدية حول ما إذا كان الحليب يستحق بالفعل هذه السمعة الجيدة التي تمتع بها على مر السنين . ومن الأبحاث ، على سبيل المثال ، دراسة نُشرت الخريف الماضي في المجلة الأميركية للتغذية السريرية American Journal of Clinical Nutrition ، أفادت أن الحميات الغنية بمشتقات الحليب تحمل معها ارتفاعاً في مخاطر الإصابة بسرطان البروستات .
ما هو السبب بالتحديد ؟ عن هذا السؤال اعتبرت إحدى النظريات أن المعدلات المرتفعة الباراتيرود للغدة الدرقية ، الذي يثبط تدنيه معدلات الفيتامين D ، وهو الفيتامين الأساسي الذي ضبط ويتحكم بنمو الأورام .موقع طرطوس
على أي حال ، فإن هذه الإكتشافات لم تشكل مفاجأة كبيرة ، إذ طالما انتاب الباحثين الشك حول إمكانية وجود صلة بين الخطر المرتفع للإصابة بالسرطان والحميات الغذائية الغنية بالأطعمة الحيوانية ، بما فيها الحليب منتجات أخرى ، والسبب هو ارتفاع نسبة الدهون الموجودة في الحليب واللحوم والأجبان . إذاً في هذه الحال الحل يبدو بسيطاً ، وهو التحول إلى الأنواع المنخفضة الدهون ، ولكن للأسف ليس هذا الإجراء الصحيح . فثمة شكوك كبيرة لدى الباحثين بأنه حتى المشتقات الحليبية المسحوبة الدسم تسبب العديد من الأمراض ، ومن بين هذه الحالات ما خلص إليه أحد الباحثين في علم الأوبئة والجينات في جامعة بوسطن ، دانيال كرامر ، من أن بعض النساء يملكن جينة تجعل أجسامهن أكثر حساسية للغلاكتوز . هو نوع من سكر الحليب الذي قد يرتفع لديهن بشكل طفيف الاستعداد للإصابة بسرطان المبيضين .موقع طرطوس
من جهة ثانية ، ألقت الأبحاث الحديثة المزيد من الضوء على مادة أطلق عليها تعريف عامل النمو المشابه للأنسولين IGF-I ، تسبب تكاثر الخلايا البشرية . على الرغم من أن هذه المادة أساسية لصحة الإنسان إلا أنها تترافق مع جانب سلبي ، وهو أنها تشجع نمو الخلايا القابلة للتسرطن Precancerous ينتج بشكل طبيعي في خلايا الكبد ، كما يتواجد أيضاً في المشتقات الحليبية التي تعتبر من أغنى مصادر الحمية الغذائية عند الإنسان . وفي كل مرة نشرب الحليب ندخل المزيد من كميات هذه المادة إلى أجسامنا بشكل يتنافى مع حاجتنا إليها ، وهكذا يحذر الباحثون من أن الجرعات الزائدة تنمي قدرة الخلايا على التسرطن .موقع طرطوس
ولكن لعل أكثر نقاط الإنتقادات الموجهة ضد الحليب استغراباً ، هي ما تحمله من ادعاءات بأن الحليب قد يكون أي شيء إلا المنقذ المزعوم للعظام . وتعتمد هذه الإنتقادات على دراسة أجريت في العام 1997 في كلية الصحة العامة في جامعة هارفرد ، شملت 78 ألف ممرضة وبينت أن الممرضات اللواتي كنّ يشربن كوبين أو أكثر من الحليب يومياً أصبن بكسور في الورك ، أكثر من اللواتي كنّ يكتفين بكوب من الحليب في الأسبوع ، أو اللواتي لم يكن يتناولن الحليب أبداً .
في الواقع ، كانت هذه الجمعيات المناهضة لتناول الحليب ، وعلى رأسها جمعية PETA ، سباقة جداً في استخلاص وتأكيد العبرة التالية من الدراسة ، وهي : ” يبدو أن الحليب هو المسبب لترقق العظام ” .
ولكن قبل أن نتوجه إلى البراد ونتخلص من الكمية المتبقية لدينا من الحليب ، علينا أن نتمعن في الجانب الآخر من هذه الروايات ضد الحليب . ففي حين ينبه كرامر مرضاه إلى وجوب الحد من كمية الحليب ، يعترف أن نظريته حول سكر الحليب الغلاكتوز وسرطان المبيضين مازالت مجرد نظرية غير مدعومة بالإثباتات العلمية الكافية ، ويلفت إلى عوامل أخرى بعيدة كل البعد عن الحليب مثل تناول حبوب منع الحمل أو إضافة مضادات التأكسد إلى الغذاء ، وهذه العوامل قد تكون أكثر أهمية بكثير من تناول الحليب أو عدمه في الوقاية من سرطان المبيضين .
كذلك فإن لا وجود لإثباتات عملية نهائية تؤكد تورط عامل النمو المشابه للأنسولين الموجود في المحليب ومشتقاته ، في أي مرض . صحيح أن العلماء لاحظوا بوضوح أن الأشخاص الذين يتجاوز لديهم ال IGF-I المعدل الوسط هم أكثر عرضة للإصابة بسرطان الثدي والقولون والرئة والبروستات ، إلا أن دراسة حديثة جداً اقترحت أن هذا لا يعني بالضرورة أن شرب الحليب بسبب السرطان . فبعد دراسة دامت 13 عاماً وانتهت مؤخراً ، قام بعض علماء الأوبئة في جامعة هارفرد في خلالها بقياس معدلات عامل النمو المشابه للأنسولين IGF-I في عيّنات دم لحوالي 500 رجل فوق سن الأربعين ، وقارنوا النتائج مع معدلات إصاباتهم بسرطان القولون على مدى 13 عاماً ، مع تدوين كميات الحليب ومشتقاته الأخرى التي كانوا يستهلكونها ، وأكدت النتائج أن معدلات ال IGF-I كانت عالية لدى الفئة التي كانت تتناول الكثير من الحليب والأجبان . لذا يفترض أن هؤلاء يجب أن يكونوا أيضاً على الأرجح أكثر عرضة للإصابة بسرطان القولون .
ولكن وقائع الدراسة جاءت معاكسة تماماً لهذا الإفتراض ، بينت الإحصاءات أن الذين يتناولون الحليب كانوا أقل ميلاً وتعرضاً لخطر الإصابة بسرطان القولون ، لذلك خلص الباحثون إلى اعتقادهم بأن الحليب هو الذي كان في الواقع يحميهم من هذا النوع من السرطان ، وهو اكتشاف أيدته أبحاث أخرى منها الاختيار الذي جرى في العام 1999 والذي وجد أن مضافات الكالسيوم تساعد في الوقاية من عودة ظهور أورام القولون . وهكذا فإن ارتفاع معدل ال IGF-I عند شاربي الحليب لم يعن أبداً ارتفاعاً في سرطان القولون .
إذاً أين هو الحد الفاصل ؟ وهل يمكن الجزم في المطلق والتأكيد أن استهلاك الحليب ومشتقاته يقي أو على العكس بسبب السرطان ؟ الإثباتات ما زالت متضاربة في أفضل الأحوال . العلماء ما زالوا في طور محاولة تحديد كيف يؤثر الغذاء على احتمال الإصابة بالسرطان ، هذا المرض الذي يتأثر أيضاً بجينات الشخص نفسه وبعوامل أخرى متعددة . ويعرب بعض الأطباء عن اعتقادهم بأن الحليب يمكن أن يقدم بعض الحماية ضد بعض الأمراض الخبيثة ، لكنه ليس العلاج السحري .
وأخيراً فإن الإدعاء بأن الحليب سيىء للعظام هو من آخر الأنباء التي يمكن أن تعلنها المشرفة على الدراسة في جامعة هارفرد ديان منيسكانيش .
وتقول إن دراستها التي اعتمدتها الجمعيات المناهضة للحليب لتعلن هذا الإستنتاج ، هي أبعد ما تكون عن هذا الإدعاء . فحالات الإصابات بالكسور لدى اللواتي يتناولن الحليب ، في دراستها ، كانت قليلة جداً ، لدرجة لا يمكن البناء على أساسها والقيام بالخلاصات الخاطئة . وتؤكد هذه الطبيبة أنه ” ليس هناك من إثباتات تفيد أن الحليب مضر ” ، لكنها في المقابل لا تجد أي براهين تثبت حتى الآن أن استهلاك كميات كبيرة من الكالسيوم – سواء من الحليب أو مصادر أخرى – يقي من الإصابة بكسور الورك والحوض ، وتعبّر عن تخوفها من أن النساء يستمررن في تناول المزيد من جرعات الكالسيوم على حساب مزاولة الرياضة التي ” أثبتت كل الدراسات أنها تحسّن كثافة العظم وتخفف من احتمالات الكسور ” .
في الخط الموازي ، يقف بعض الأخصائيين من أمراض ترقق العظام الذين يتفقون أن تكون أي دراسة تدعو أياً كان إلى عدم تناول الحليب ومشتقاته ، مؤكدين أنهم خلال مراجعتهم ل 52 دراسة علمية وجدوا أن 50 دراسة خلصت جميعها إلى أن زيادة تناول الكالسيوم – سواء عبر المنتجات الحليبية أو بواسطة الأطعمة المقواة بالكالسيوم أو المضافات – تقوي العظام وتخفف مخاطر الكسور .
إذاً هل مازال باسطاعتنا أن نضع الحليب في سلة مشترياتنا ؟ على الرغم من أنه مازال أمام العلماء الكثير ليكتشفوه حول كيفية تأثير الحليب ومشتقاته الأخرى على صحتنا ، فإن معظم الخبراء متفقون على أن الحليب ليس سماً قاتلاً ولا غذاءً سحرياً . لذلك ربما ينبغي علينا النظر إليه كوسيلة جيدة للحصول على حصتنا اليومية من الكالسيوم ، سواء من خلال كوب من الحليب الخالي من الدسم يومياً أو حوالي 300 ميلليغرام من اللبن المنخفض الدهون ، بالإضافة طبعاً إلى أنه من مصادر البروتين والعناصر الغذائية الأساسية الأخرى .
وأخيراً ، هل ترغب بكوب من الحليب ؟