مرض أحد شيوخ القبيلة، فرقد في فراشه، يتناول الأعشاب البرية التي وصفها طبيبه الأسيوي. وأخذ الأصدقاء والأقرباء يترددون عليه، حاملين له الهدايا من أطعمة وفواكه، يواسونه على ما حل به، ويتمنون له الشفاء. وكان الأصدقاء يشجعونه دائماً بالقول: “إنها شدة- وسوف تزول”.
لكن المرض اشتد على الرجل، ولم يأت العلاج بالنتائج المرجوة منه. وبدى واضحاً أنه يقترب من النهاية.موقع طرطوس
وفي منزل قريب، اجتمعت نخبة من الأصدقاء وأخذوا يفكرون في عمل ما يشجعون به صديقهم المريض، ويدخلون به السعادة على قلبه.
فاقترح أحدهم أن يقدم له طبقاً يحمل أغلى وأشهى فواكه الموسم. فاستهجن الجميع رأيه قائلين: “وما حاجة مريض يحتضر إلى أطباق الطعام؟ ليس هذا من حسن الذوق!”
وقال آخر: “لنحضر له ثوباً جميلاً، فاستاءوا قائلين: “وهل بليت كل ثيابه حتى نشتري له ثوباً جديداً؟ ليس هذا من حسن الذوق!”
وقال ثالث: “فلنحضر له سريراً مريحاً.” فقالت الجماعة: “هذا ذوق فاسد، فالمريض لا يحب الفراش.”موقع طرطوس
ثم لمعت فكرة جديدة في ذهن أحدهم فقال: ” إن الرجل يموت أليس كذلك؟!” فقالوا: “نعم”.
فأضاف قائلاً: “فلماذا لا نشتري له كفناً جميلاً؟!”.
وهنا أشرقت وجوه الأصدقاء، وقالوا لصاحبهم: “إننا نحسدك على فطنتك وعلى ذكائك وذوقك السليم، فهذه حقاً هدية رائعة سوف تدخل السرور على قلب صديقنا المريض!”
وكان الناس على حق، فما أن رأى المريض الكفن حتى تهلل وجهه، وأبدى سعادته، فقد أظهر أصدقاءه حقاً مدى رقتهم وظرفهم وحسن ذوقهم وحسهم المرهف!
آه لو أننا فعلنا ذلك في أي بلد من بلادنا العربية، وقدمنا كفناً لمريض! أما كان ذلك يعتبر قلة ذوق، أو قلة أدب؟! أما كان أهل المريض يطردوننا، ويشيعوننا بالسباب واللعنات، وربما بالضرب المبرح؟!موقع طرطوس
الذوق…
الذوق أساساً هو الحاسة الخاصة، التي يدرك الإنسان بها طعم الأشياء، من حلو ومالح وحامض ومر… الخ اعتماد على ما ترسله الأعصاب الحسية باللسان إلى المخ من إشارات خاصة.
ولكن معنى الذوق لا يقتصر على مجرد تقدير مذاق الأطعمة، بل يتسع ليشمل الإحساس بقيمة أشياء أخرى غير مادية أيضاً، كالآداب، والفنون والحديث والسلوكيات وغيرهما.
فالذوق هو القدرة على إدراك القيم والمعاني ومواطن الجمال التي تتضمنها المشاهدات العامة.
الذوق هو الإحساس بجمال الفنون ورقة الكلمات وكياسة التصرف وإبداعات الخلق..الخ.
– فالذوق الأدبي مثلاً، هو القدرة على تذوق الأعمال الأدبية والحكم عليها.موقع طرطوس
– والذوق الفني هو القدرة على تذوق الأشكال والتكوينات والتصميمات الفنية والحكم عليها.
– والذوق الموسيقى هو القدرة على تذوق المعزوفات وتقييمها والحكم عليها.
– والذوق السلوكي هو القدرة على الحكم على سلوكيات الناس والرضا عن بعضها واستنكار البعض.
وبقدر ما يملك الإنسان من جملة هذه الأحاسيس، بقدر ما يتمتع بالذوق- أي القدرة على الإدراك الفطري لقيمة الأشياء.
هذا ما يتعلق بالذوق عند الأفراد. فماذا عن الذوق عند جمهور من الناس في مجتمع معين؟ هذا ما نسميه الذوق العام.
.والذوق العام…
الذوق العام هو القدرة الفطرية على تقييم الأشياء والحكم عليها من جانب جمهور من الناس يجمعهم موطن واحد.
فحين تتفق جماعة من البشر على مجموعة من القواعد المحسوسة التي يقيمون بها الأشياء، تصبح هذه القواعد معاييراً للحكم، ومعاييراً للذوق العام لهذه الجماعة.
وبالطبع فإن هناك عوامل لا حصر لها تشارك في تشكيل الذوق العام عند الجماهير المختلفة. كما أنه من الطبيعي أيضاً ما يراه مجتمع معين كمثال للذوق المرتفع الراقي، قد يبدو لمجتمع آخر مثالاً لقلة الذوق والعكس صحيح!موقع طرطوس
الذوق العام نوع من القانون الذي يحكم سلوكيات الناس في إطار بيئتهم، والويل لمن يخرج عن معايير الذوق العام في مجتمعه!
وقلة الذوق
المفروض في “الذوق العام” عند جماعة معينة أن يكون نابعاً من داخل الجماعة، فيمارسونه بالفطرة دون أن يكلفهم جهداً، لأنه نابع منهم وموجود فيهم. لذلك فإذا تصادف أن فعل أحدهم شيئاً يتنافى مع ذوق الجماعة التي ينتمي إليها، فإن هذا يدل على كونه قليل الاهتمام بمجتمعه، ولذلك فإن رصيده من الحس العام بمزاج أهله قليل، مما يجعله “قليل الذوق!”موقع طرطوس
فقلة الذوق هي الصفة التي يُرمى بها كل إنسان يفعل شيئاً لا يتوافق مع المعايير السلوكية للجماعة. ودرجة “قليل الذوق” هي إحدى درجات الحكم، تتلوها درجة أعنف هي درجة “عديم الذوق!”
اكتساب الذوق الراقي
أغلب الفنانين في العصور الوسطى، تربوا منذ صباهم في مراسم عريقة لفنانين أقدم منهم، فعاشوا معهم، وخدموهم، وراقبوهم، وتابعوا إبداعاتهم وهي تولد لحظة بلحظة، ورأوا معالجاتهم للموضوعات التي يبدعونها، فتشربوا من فنونهم، وامتلأت عيونهم بالألوان، وامتلأت صدورهم برائحة الزيت، وامتلأت آذانهم بطرقات الأزميل، فاصطبغت حياتهم بالفنون، والتصقت، أرواحهم بهياكل الإبداع، وهكذا اكتسبوا الذوق الفني!موقع طرطوس
وينطبق هذا بالطبع على اكتساب الذوق الأدبي والذوق السلوكي، وكافة ألوان الذوق.
اكتساب الذوق الروحي
الذوق الروحي هو المقابل للذوق المادي الذي يغطي كل جوانب الحياة المادية.
فالذوق الروحي هو صقل النفس الإنسانية، لتصبح قادرة على التمييز والحكم على الأشياء من منطلق مضامين روحية صافية، لا تشوبها الاختيارات والميول المادية.
واكتساب هذا الذوق الروحي، لا يأتي أيضاً إلا بالالتصاق بالبيئة الروحية، والحياة في جو روحي دائم، تصتبغ به الحياة كلها.
اكتساب الذوق الروحي يعني تغييراً في أرواحنا، في داخلنا، في عمق أعماقنا. فتنبع أفكارنا من قلب جديد غيرته لمسة الله.موقع طرطوس
اكتساب الذوق الروحي ليس شيئاً نصنعه، وليس شيئاً نتلقنه من الناس، لكنه يتحقق بالعمل الذي يصنعه روح الله في داخلنا، فتتشكل أمامنا صور جديدة وأبعاد جديدة ورؤى جديدة.
اكتساب الذوق الروحي هو إعادة تشكيلنا من الداخل بقوة إلهية قادرة، تفعل فينا ما يفعله الخزاف بقطعة الطين، حين يعيد صياغتها بأنامله القادرة حسبما يحسن في عينيه!
صرخة إنسانية
يا رب أعد صياغتي، أعد تشكيلي، وأصلح ذوقي الروحي، فقد فسد ذوقي- من فرط ما تناولت من أطعمة قديمة. وعبادتي الجافة الباردة- لا تترك بحلقي سوى العطش والحرمان!
-أصلح ذوقي، فقد اختلطت في داخلي مذاقات الأشياء، ولم أعد أميز بين الحلو والمر، ولم أعد أعرف الصالح من الفاسد.
-واختلطت في أذني الأصوات ولم أعد أميز الباطل من الحق. ولقد سئمت نفسي من كلام الناس، فتحدث أنت إلى قلبي.
وسئمت قدماي من السير وراء الناس، فحول أنت خطواتي إلى طريقك.
وسئمت أذناي من نصائح الناس، فاملأ أنت أذني من حقك.موقع طرطوس
وسئمت من توجيهات الأرض، فوجه قلبي بجملته إلى سمائك.
امنحني ذوقاً روحياً- يميز صوتك بين جميع الأصوات ويميز طريقك بين جميع المتاهات.
أرشدني بروحك، فأدرك خلاصك الواحد- وأجد طريقي بين الحلول الخادعة التي تملأ أسواق المخدوعين.