الأنف مختبر للروائح يحتوي على 15 مليون خلية تستطيع التمييز بين 100 عطر مختلف
تنمو حاسّة الشم عند الجنين في أحشاء أمّه وعند الولادة يتعرّف إلى رائحة جسدها ويحلّل أنفه لأول مرة مئات الروائح التي يسجلها دماغه ، ومع مرور الوقت تتراكم آلاف الروائح في الذاكرة .
ينمو الطفل ويكبر فيكتشف بوعي منه أو في عقله الباطن أن كل إنسان تنبعث منه رائحته الخاصة وأن لكل مكان ولكل بيت ولكل وردة رائحتها التي تحددها وتعرّف عنها .
وتبقى كل الإختبارات التي نمر بها مرتبطة بروائح معينة تولّد فينا على مدى الحياة ردد فعل فيزيولوجية وعاطفية . وهكذا تُنشىء حاسة الشم عندنا شبكات من الإتصالات بيننا وبين العالم الخارجي المحيط بنا وتحملنا قدرتها في اتجاهات أكيدة ، أو تعود بنا إلى ذكرى معينة ، فتطفو أمامنا كأنها الحاضر .
حاسة الشم والدماغ
يؤثر العطر مهما كان نوعه على الهورمونات الجنسية في الدماغ فيبدل في تصرفاتنا وسلوكنا ويعمل أيضاً على الهابيوتلاموس ( جزء في قاعدة الدماغ ) الذي يتحكم بردّات فعلنا العاطفية وعلى نظام Systeme Limbique الذي يدخل في عمل الذاكرة .
وترتبط حاسة الشم أيضاً بشكل وثيق بحاسة الذوق حتى لو كانت هاتان الحاستان مختلفتين من الناحية التكوينية ، إذ تعمل المكونات الموجودة في الهواء وفي الأطعمة على تحفيزهما معاً . غير أن الأحاسيس التي يتلقفها الأنف تفوق بكثير تلك التي ترصدها غدد الذوق لأن الفجوة الأنفية تحتوي على 15 مليون خلية متقصية للرائحة . وهكذا عندما تصل رائحة الأطعمة إلى أنفنا تحفّز هذه الخلايا الأنزيمات الهضمية بغية تسهيل عملية الهضم .
في الحقيقة إن حاسة الشم هي مختبر رائع للتحاليل الكيميائية قادر على تمييز أكثر من 100 عطر مختلف ، وقد تشكل هذه الحاسة المعددة الأوجه سلاحاً ذا حدّين . فنقص المحفزات العطرية قد يؤثر سلباً على قدرة الفرد العاطفية ويضعف تكيّفه مع محيطه ويزيد من إحساسه بالعزلة ، وفي المقابل يؤدي العيش في جو عابق ومفرط بالروائح القوية – سواء كانت طبيعية أو اصطناعية – إلى تقليص قدرة حاستي الشم والذوق معاً .
في الحالتين ، يتأثر أداؤنا العاطفي ولهذه الأسباب يجب توخي الإنتباه في استخدام العطور عند الشباب والأطفال . فما يحتاجونه بالدرجة الأولى هو شمّ الرائحة الطبيعية لجسد الأم والأب التي تمنحهم الشعور بالأمان والحماية ، على أن يتم اختيار الروائح الخفيفة والناعمة للأطفال كعطر الخزامى مثلاً .
صناعة العطور
معظم منتجات قطاع صناعة العطور في أيامنا هذه هي عبارة عن مركّبات غير طبيعية . لذا ، يجب ، في عصرنا الحالي ، عصر الحفاظ على البيئة والبحث عن نوعية حياة أفضل ، إيلاء المنتجات الطبيعية اهتماماً أكبر ، انطلاقاً من الحرص على صحة المستهلك .
من هنا يفترض أن تكون تركيبة أي عطر أو مياه كولونيا طبيعية وغير قابلة للتزييف أو التقليد . وحدها المواد الأولية الطبيعية قادرة على منح شذى مميز ومتفرد . لا شك أن تقليد العطر الطبيعي يكّلف ثمناً أقل لكن تأثيره على الجسم مختلف تماماً ( هل نستطيع أن نقارن بين نبيذ ممتاز وشراب آخر يعيد تكوين المذاق بصورة كيميائية ؟ ) الفرق شاسع تماماً .
ومما لا شك فيه أيضاً أن أسعار المواد العطرية الطبيعية باهظة ، ذلك لأن النباتات العطرية تتطلب جهداً ووقتاً طويلاً من العناية قبل أن يتم تصنيعها إلى عطور : التقطير ، الضغط على درجة حرارة منخفضة تماماً الخلط ، التعبير … فلكي نحصل على مستخرج عطر زهرة Iriz مثلاً يقتضي الأمر الإنتظار مدّة ثلاث سنوات ليكتمل نموّها وثلاث سنوات أخرى لتجفيف جذورها .
تطور قطاع صناعة العطور
قبل النهضة الصناعية والتقنية كان استخراج العطور محصوراً بالزيوت الأساسية ، المياه المقطرة والنباتات العطرية . فلكي نحصل على عطر من ثمرة الحامض مثلاً علينا أن نلجأ إلى تقنية ضغط القشرة على درجة مئوية متدنية جداً أو استخدام وسائل أخرى كاستخراج العطر بواسطة مادة دهنية Enfleurage . في تلك الحقبة كان للمياه المعطرة مكانة خاصة ، فقد كانت تمثل أكثر بكثير من مجرد متعة بسيطة للحواس لأنها كانت تشكل وسائل للعناية الصحية والحماية من أمراض متعددة ( من هنا انطلاق العلاج بالعطور ) إضافة إلى كونها مستحضرات تجميل .
ولكن بسبب الكلفة الباهظة التي فرضتها هذه الصناعة الدقيقة اتجهت أخيراً نحو كيميائية التركيب الصناعي . وتجدر الإشارة هنا أنه لا يمكن استخدام العطور الصناعية في إطار ” العلاج بالعطور ” لأن المواد التي تحتويها قد تكون مضرّة تماماً وقد تؤدي إلى مشاكل جلدية ( أكزيما ، بقع سوداء ، تهيّج جلدي .. )
استخدام العطور
تشير طريقة وضع العطور واختيار أنواعها إلى شخصية صاحبها ، ميوله النفسية . وهي لا تدل فقط على مجرد هواية أو متعة فردية بل ترمز أيضاً إلى الصورة التي نريد أن نتشاركها مع الآخرين أو أن نظهر بها ، أو السلطة التي نود أن نفرضها عليهم . كأي وسيلة أخرى للإتصال ، يجب أن نتعلم اللغة الخفية للعطور ، وأن نميز بين أصحابها .
فالذين يتعطرون بالروائح القوية والحادة إلى حدّ الإفراط يعبرون عن مشاعر عدائية كالذوق السيّىء أو فرض آرائهم على الآخرين ، وعلى العكس فإن العطور الناعمة والخفيفة تنمّ عن لياقة صاحبها وخفّته وسحره وغموضه .
رائحة الجسد
لا يجب أن نستغرب حين نعلم أن بشرتنا تبثّ رائحتين مختلفتين تماماً ، عندما نكون في حال حب أو حالة كراهية . وأن الرائحة الطبيعية للجسد تتبدل بتبدل النظام الغذائي والمناخ أو القواعد الصحية المتّبعة وحالة الأسنان واستهلاك الكحول والأدوية ، وأنها تتغير وفق مراحل العمر والنشاط الجنسي ونوع كل بشرة والأمراض المحتملة .
تتخذ رائحة الجسد أهمية كبيرة في الطب الصيني حيث يعتمد على مؤشراتها في تشخيص الداء ووصف العلاج . فروائح الجسد التي تميل إلى المرورة تدخل على خلل في عمل الصفراء ، والناعمة منها ترتبط بعمل البنكرياس ، والروائح الحمضية قد تنبىء بخلل في عمل المعدة .
وفي الختام ، يمكننا القول إن رائحة الجسد الطبيعية التي تنبعث من كل شخص هي فريدة لا تشبه غيرها ، لذا يختلف العطر نفسه وشذاه من شخص لآخر .
العطور والثقافة
يرتبط استخدام العطور بالقدرة التي تمارسها حاسة الشم على الروح والمشاعر ، لذا استخدمت العطور في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة ، سواء كان ذلك في إطار الطقوس الدينية أو في إطار العلاجات أو التجميل أو من أجل التفرّد برائحة مميزة . وقد استخدمت العطور في الحضارة المصرية القديمة واستخرجت من الزيوت الأساسية ، وما الرسومات على أضرحت آلهة الفراعنة سوى شهادة عن الإهتمام الكبير بهذا الفن للعناية بالجسد والتبرج معاً . وقد كانت العطور في ذلك العهد بمثابة الذهب والأحجار الكريمة .