مايكل غرانيفا مؤلف الكتاب واحد من الرواد العالميين اللامعين في ميدان الفيزيولوجيا العصبية وقد صدر مؤلفه بشرح للأسباب التي دفعته إلى اقتراح نموذج جديد لعمل المخ نظراً للتشابك الكبير والمعقد في عمل هذه الوحدات المنظمة التي تعمل كوحدات مستقلة عن بعضها البعض عبر روابط خفية لا تمنعها من التزامن في عملها بالتوازي مع غيرها من الوحدات .
اعتقد معظم العلماء أن المخ نظام يقبل التغير إلى ما لا نهاية وأنه يتأثر كثيراً بتبدلات الوسط فبالنسبة إليهم يمثل الوليد صفحة بيضاء تنتظر ما يملؤها وينظمها ولطالما نظر العلماء بريبة إلى كل اكتشاف يستشف منه أن نسيج المخ يمتلك خوصاً تفرض على التطور النفسي اتجاهات معينة خصوصاً وأن أبحاثاً كثيرة بينت أن الأعصاب تنمو وفق خطوط محددة مسبقاً بأواليات وراثية دقيقة وتتخصص هذه الأعصاب بمهمات معينة وترتبط بالنسيج المحيط المناسب لعملها فإن حرفنا – جراحياً – عصب الطرف الخلفي اليساري مثلاً لدى فأر ووصلناه بالطرف الخلفي اليميني فإن هذا الأخير يسلك وكأنه الطرف الخلفي اليساري وذلك طوال حياة الفأر .
وتدل الدراسات على أن التشابكات العصبية تتحدد أكثر بالوراثة وليس بالوسط وأنه لا يمكن تغيير بنية المخ الأساسية إلا باكراً في الحياة ودائماً بصورة سلبية .
يمكن دراسة نمو المخ الذي يختلف معدل نموه من فرد إلى آخر والتطور النفسي المرافق له بفحص التقابل الكائن بين ترتيب اكتساب الكفاءات لدى الطفل وانحطاطها لدى وقوع تلف في المخ عند البالغ .
ويشرح المؤلف طويلاً الدراسات التي قام بها مع آخرين على الحيوانات والناس الذين تم قطع الجسم الجاسىء لديهم ( وهو كتلة من الألياف العصبية تصل بين نصفي المخ الكرويين الأيمن والأيسر ) لإصابتهم بحالات يصعب التعامل معها دوائياً من الصرع – ولا يمكن تطبيق هذه الطريقة في البتر إذا تواجدت الألياف في منطقة مهمة من المخ كمنطقة اللغة على سبيل المثال – ولهذا يتم قص الجسم الجاسىء دفعة واحدة أو على دفعتين لأن النوية إذا ما ظهرت في أحد المخين فإنها لن تنتقل إلى الآخر .
من المعروف أن المخ الأيسر يتحكم بالنصف الأيمن من الجسم وبالعكس وتتركز في المخ الأيسر – عادة – اللغة ووظائف التعرف وقد يؤدي تلف ما في هذا المخ إلى فقدان القدرة على الكلام أو على الفهم .
أما المخ الأيمن فإنه لا يلعب دوراً مهماً في سيرورات اللغة لكنه مسؤول عادة عن السيرورات غير اللغوية كالإنتباه والتمييز المعقد بين الأشكال وكالتعرف على وجه مثلاً أو على السيرورات السمعية كمعرفة وجود اختلاف في النبرة .
ويصل الجسم الجاسىء بين هذين المخين ويتم تبادل المعلومات بينهما من خلاله وعند قطعه يصبح المخان منفصلين بحيث لا يعلم كل طرف ماذا يجري في الطرف الآخر فإن رأى أحد الذين تعرضوا لهذه العملية بعينه اليسرى ( بمخه الأيمن ) تفاحة فإن مخه الأيسر ( المسؤول عن النطق ) ينفي أنه رأى شيئاً ما ويصف المؤلف تجارب كثيرة شيقة ومهمة في هذا الصدد .
وهكذا تسمح مثل هذه الدراسات وغيرها بملاحظة بعض الكفاءات الذهنية بمعزل عن غيرها .
ويستنتج المؤلف أن المخ الطبيعي منظم على صورة وحدات معالجة قد يصل عددها إلى الآلاف ويمكنها أن تعبر عموماً عن ذاتها من خلال فعل حقيقي وليس من خلال اتصال شفهي فباستطاعة هذه المنظومات أن تتذكر الحوادث وأن تحفظ الاستجابات العاطفية وأن تستجيب للؤثرات المرافقة لذكرى معينة ويتبين أيضاً أن المخ الأيسر منوط بوظيفة تفسير سلوكنا واستجاباتنا العاطفية التي تنتجها وحدات مخنا الذهنية هذه ويضيف المؤلف إن ذلك يتم نظراً لحاجة المخ أن يشعر بنوع من التماسك في السلوك .
ويدرس المؤلف علاقة هذه الوحدات بالذاكرة ويحاول تفسير اللاوعي على أساسها فهو يتفق مع فرويد الذي رفض مفهوم سيرورة وعي موحدة ودافع عن وجود منظومة عقلية متمايزة ومجزأة ويرى غرانيغا أنه يمكن تكييف نظرية فرويد مع نموذجه إذ بدلنا المفهوم الفرويدي في ( السيرورات اللاواعية ) ب ( الوحدات الذهنية المتشاركة في الوعي غير الشفهي ” أو اللغوي ” ) ويدرس المؤلف من خلال دور المخ الأيسر التفسيري وعبر التاريخ نشوء المعتقدات ويرى أن الإنسان كائن مؤمن ( ليس حصراً بالمعنى الديني ) وأنه بحاجة دائماً إلى معتقد ليتمكن من العمل .
يبقى أن نشير أن الكتاب الممتاز وقع في إشكالية صغيرة تتعلق بإشارة المؤلف أن المخ الأيسر يعطي تفسيراً للسلوك البشري – وهو تفسير مهم ومحرك للبحث – ولكن لا يمكننا القبول به لأنه انطلق من دراسة حالات قليلة ( لم يتم قص الجسم الجاسىء لآلاف الناس ) وهذا بحد ذاته ما يجعل نظرية غزانيغا عن المخ تحتاج إلى المزيد من الدراسات العلمية المعززة لوجهة النظر التي خلص إليها الكتاب .