لم يعرف العالم لقرون الكهرباء وأجهزة التبريد، لكن العرب عاشوا في مكة وشبام في اليمن والكوفة في أجواء الصحراء ولم نسمعهم يشكون من القيظ، السر بالتأكيد في بيوت الطين والمدن الأفقية القريبة من الأرض.
تضرب العالم موجة حرارة وتصحر كبرى يعزوها البعض إلى التغير المناخي الناجم عن الحضارة وإشعاعاتها وآثارها الضارة على البيئة. فالمباني العملاقة التي يشكل الاسمنت والحديد والزجاج وألياف البلاستك عماد بنائها باتت مظهر المدن العصرية عبر العالم هي من الأسباب الأكيدة لحرارة الجو والتلوث البيئي في المدن والحواضر.
درجات الحرارة في المدن العربية في الصيف هذا العام مثلا تتراوح بين 40 إلى 50 درجة مئوية، وهذا يترافق مع غياب الطاقة الكهربائية وانقطاع الماء عن مدن بأكملها بسبب التصحر والحروب، ولك أن تتخيل كيف سيعيش الإنسان بلا كهرباء ولا ماء وبدرجة حرارة 50 مئوية في شقة بالطابق العاشر في مبنى وسط بغداد التي يبلغ عدد سكانها 7 ملايين نسمة والتي لا يزورها التيار الكهربائي إلا لماما والتي لا تصعد مياهها إلى المباني المرتفعة بسبب عطل محطات الضخ لقلة الطاقة الكهربائية! وبغداد هنا مثال واحد لعواصم ومدن وقرى عربية كثيرة في ليبيا واليمن وسوريا والصومال لم تعد تعرف الكهرباء وتعاني من انقطاع الماء!
وقد قررت الكاتبة والروائية والناشطة البيئية التي تعيش في تركيا اتُليا بينغام أن تجعل هذه الأفكار حقيقة، فذهبت إلى الجبال، وابتنت لنفسها بيتا من طين، ونشرت موقعا خاصا عن البناء بالطين أسمته “The Mud Home “.
يعرض موقعها طرق البناء بالطين، مبينة أنه يمكن بناء بيت من أكياس التراب، وتسقى بالماء، ثم تغلف بجدران كلسية تحفظها من الذوبان في الإمطار، وبهذا الخصوص تبين في صفحات الموقع تفاصيل بناء الهيكل العام، ويجب أن يكون طبعا خشبيا، هنا لا مجال لاستخدام المعادن والحديد خاصة، أمام الزجاج فلا بد من استخدامه للنوافذ وإلا بات البيت مظلما، وهذا يجري ضمن الحد الأدنى. ثم تصف بناء المدخل والغرف كل على حدة. التيار الكهربائي هنا غائب والماء يُحصل عليه من موارد طبيعية من الأرض وينبغي تعقيمه وإعداده للشرب.
ما فعلته الكاتبة اتُليا هو مثال واحد لتوجه عمراني ينتشر عبر العالم لتجاوز مشكلات البناء الحديث وتكاليفه الباهظة. ونشرت في موقع” أمريكان ستاندارد” دراسة كشفت أن ثلثي سكان الكرة الأرضية ( نحو 5 مليار إنسان) لا يستطيعون أن يبنوا لأنفسهم غرفة واحدة حدث ولا حرج عن بيت كامل، وهكذا فإن البناء الطيني لن يكلف كثيرا وسيتم دون صعوبات وأحيانا بوقت أسرع من البناء العصري، حيث أكدت الناشطة المدافعة عن بيوت الطين اتُليا بينغام أن بيتها المروفع فوق جبل استغر بناءه عاما كاملا على يدها .
في المنطقة العربية وخاصة في القرى تشيع أساليب البناء بالخشت ويسمى أحيانا “اللِبِن” أو ” الملبّن”وهو خليط من تراب وتبن وماء وقد يضاف إليه بعض الحصى لتعزيزه وتقويته، ثم يقطع بقوالب خشبية وتترك لتجف ثم تستخدم في البناء بدلا عن الأجر الحجري. التسقيف عادة يجري بجذوع الأشجار، أو جذوع النخيل، وفي بعض المناطق يستخدم سعف الخيل والحصير مخلوطا بالطين ، ويكسى كل الخليط بالجير الأبيض.
وحسب تقرير نشرته صحيفة العرب اللندنية، فأنّ مبادرة بهذا الاتجاه انطلقت في المملكة العربية السعودية تقوم بها “أكاديمية البناء بالطين” في بلدة الخبراء التراثية بمنطقة القصيم ويقصد منها إعادة ثقافة البناء بالطين باعتباره طرز المعمار المناسب تماما للمنطقة العربية الصحراوية الحارة قليلة البرودة في الشتاء.
هل نشهد توجها عربيا واسعا لاستعادة المعمار الطيني وجمالياته وأقواسه التي تناسب مناخ المنطقة، أم يستمر العالم في نمط البناء الإسمنتي الحديدي الزجاجي الموحد المدمر، فتتآكل موارده ويعيش الناس في المناطق المحرومة من الخدمات عذابات مضعفة؟