هل كنت ستبدو جميلا لو كنت في زمن آخر؟ الصحفي العلمي ديفيد روبسون يكشف أن الجاذبية أمر أكثر مرونة وذاتية مما قد نتصور.
لا يُحتمل أن تصف فنانة الكوميديا البدينة “دون فرينتش” نفسها بأنها رمز للجنس، ولكن هل ولدت ببساطة في زمن غير مناسب؟ فقد قالت ذات مرة بسخرية: “لو خلقت في زمنٍ كان ’روبنز‘ يرسم فيه شخصياته، لأصبحت نموذجا رائعاً للرسم. ولكن ماذا عن كيت موس؟ مهلاً، كانت ستُستعمل كفرشاة للرسم.”
ربما بدت ملاحظة “فرينتش” تلك ساخرة حقا، إلا أن ما أثارته هو أمر جدي بالفعل.
فهل تتغير معايير الجمال بمرور الزمن؟ وهل هناك بعض الصفات التي يمكن تقبلها بشكل كلي عبر قرون من الزمن، وعبر حضارات وثقافات متعددة، باعتبارها جذابة في كل زمان ومكان؟
لعل هناك أسباب تتعلق بالنشوء والتطور، وهو ما يعطي للجمال صفة الخلود. فهناك صفات بيولوجية معينة تدل على الصحة، واللياقة البدنية، والخصوبة، وهي صفات مؤهلة لزوج تكون له ذرية جيدة، وينبغي علينا أن نجد هذه الصفات جذابة من الناحية الجنسية.
ومع ذلك، فكلما تمعن علماء الأحياء وعلم النفس في البحث، كان من الصعب أكثر التوصل إلى أسس بيولوجية بحتة للجمال.
تأمل ما يبدو لنا حكمة من خلال تفضيلنا للصفات المتماثلة والمتوازنة. ويظهر أن التفسير العلمي لها معقول: إذ يمكن للأمراض والتوترات أثناء الطفولة أن تؤثر بشدة على تطور الجسم، مما يخلق “عدم استقرار” يؤدي إلى نمو جانب من الجسم بشكل مختلف قليلاً عن الجانب الآخر.
لذا فإن وجهاً غير متماثل يدل عادة على ضعف جسماني، مما يجعل الأمر أقل جاذبية.
كانت المشكلة تكمن دوماً في استطلاع آراء عدد قليل من الناس عند إجراء الكثير من التجارب السابقة لتقييم وجوه مختلفة للناس من ناحية الجمال، مما كان يسهل بروز نتائج عفوية.
عندما قام ستيفان فان دونغن من جامعة “أنتيرب” البلجيكية بخلط النتائج في تحليل كبير، وجد أن ذلك التأثير يختفي تقريباً عندما تستطلع آراء عدد كافٍ من الناس.
في الحقيقة، إن تماثل جانبي الوجه قد لا يعطي أي دلائل على صحتك. ورغم أن بحثاً سابقاً أظهر وجود بعض الأدلة على ذلك المفهوم، فإن دراسة أجريت عام 2014 أخذت بعين الاعتبار مسحا مجسما أجرى لما يقرب من 5,000 مراهق، ووجهت إليهم أسئلة حول أحوالهم الصحية.
وقد توصلت تلك الدراسة إلى إن أولئك الذين تميزوا بصفات بدنية متماثلة أكثر من غيرهم (في الوجه) لم يكونوا أكثر صحة من الآخرين.
كما افترض علماء الأحياء أننا نفضل الوجوه التي تلخص “الرجولة” أو “الأنوثة” لجنسها: فالفك العريض لـ”جون هام” كمثال للرجال؛ والصفات الرقيقة لـ”ميراندا كير” كمثال للنساء.
ومرة أخرى، كان ذلك منطقاً سليماً: فالهيكل العظمي يعكس الهرمونات الجنسية التي تُضخ في الجسم عبر الدورة الدموية، وبالتالي فإنها تعلن عن خصوبة المرأة، وعن صفات مثل الهيمنة لدى الرجال، وهي مواصفات مهمة عند إختيار شريك الحياة.
ورغم كل ذلك، فإن أكثر هذه الدراسات شملت فقط أناساً في المجتمعات الغربية. وقد قررت “إيزابيل سكوت” وزملاؤها من جامعة بروناي دراسة مجتمعات أوسع، عبر آسيا، وأفريقيا، وجنوب أمريكا، وروسيا.
وتوصلت سكوت وزملاؤها إلى وجود تنوع في الأولويات والأفضليات. وفي الحقيقة، توصلوا إلى أن هناك إنجذاباً قوياً نحو الرجال من ذوي الصفات الرجولية، ونحو النساء ذوات الصفات الأنثوية لدى من يعيشون في المناطق الأكثر تحضراً؛ أما في المجتمعات الأصغر، والمجتمعات النائية، فإن النساء فضلن الرجال الذي يبدون أكثر “أنوثة” من غيرهم.
ينطبق نفس الشيء على شكل الجسم. في الغرب، إذ يقدر الناس عموما النساء ذوات السيقان الطويلة، بينما يفضلون الرجال النحيفين.
أما أفراد قبيلة “الهيمبا” من البدو في ناميبيا، فأذواقهم بدت عكس ذلك. حتى الأولويات الغربية تبدو وقد تغيرت عبر الزمن؛ ففي لوحة “مولد فينوس” للرسام “بوتيتشيللي” ـ والتي كانت في فترة ما نموذجا مثاليا للجمال في الغرب ـ نرى أن ساقيها، وخاصة عند مقارنتها بجسمها، كانت أقصر من النماذج المفضلة للفتيات في أيامنا نحن.
ومع أن شكل جسم المرأة ذات الخصر الضيق، وشكل جسم الرجل ذي الكتفين العريضين، ينالان الإعجاب في معظم المناطق، فإن هذين الشكلين المفرطين في كونهما مثاليين يعتمدان أيضا على طبيعة المجتمعات.
ربما ينبغي لاختيارنا شريك الحياة أن يكون ذلك الاختيار مرناً بحيث نستطيع إصطفاء الأفضل بناءً على الظروف التي يمر بها المجتمع.
يقول أنتوني ليتل من جامعة ستيرلينغ: “على سبيل المثال، في مجتمعات تكون فيها المجاعة خطراً حقيقياً، نتوقع تفضيل شريك الحياة من البدناء، لأن هؤلاء الأشخاص سيكونون أكثر مقاومة لنقص الغذاء.”
ويبدو حقاً أن هذا هو الواقع. وعلى نفس المنوال، فإن شخصاً يواجه مخاطر أكبر للإصابة بمرض ما، سيكون أكثر استعدادا لتقدير العلامات الدالة على الصحة الجيدة –مثل تناظر صفات الوجه- مقارنة بأولئك الذين يكونون في مأمن نسبياً من الإصابة بالأمراض.
عندما تكون الهيمنة صفة معتبرة، تفضل النساء أيضاً رجالاً من أصحاب الذقون العريضة – أي من لديهم هرمونات ذكورية أكثر.
يقول ليتل: “وجدنا، على سبيل المثال لا الحصر، أن النظر إلى المنافسات بين الرجال، مثل مشاهدة شجارا بين رجلين، يزيد من تفضيل النساء للوجوه ذات الملامح الرجولية أكثر.”
لذا، فإن مفاهيمنا حول الجمال تبدو غير مادية، وغير محددة بزمن، ومع ذلك فقد تكون مجرد نتاج مباشر لظروفنا الآنية.
ومما يجدر ملاحظته أيضاً تأثير التزامن: فقد توصلت دراسات تلو أخرى إلى أنك إذا ما سمعت أو رأيت شخصاً قد انجذب نحو شخص آخر، فمن المرجح جداً أن تولع بهما أنت أيضاً. وبهذه الشاكلة، فإن استحساننا لأشخاص بعينهم سينتشر عبر مجموعة من الناس فيصوغ معايير لما نعتبره جميلاً.
يقول ليتل: “تكمن الفائدة من هذا الأمر في عدم حاجتنا لتعلم كل شيء بأنفسنا، حيث أننا نستطيع الاستفادة من خبرات الآخرين. ما يثير الاهتمام في المجتمعات المعاصرة هو أن وسائل التواصل الاجتماعي تعني إمكان تحول هذا التعلم ليصبح على نطاق عالمي.”
تأمل التجربة التي أجريت مؤخراً في “كلية جونز هوبكنز كيري لإدارة الأعمال” في بلتيمور، عندما استخدم الباحثون أحد مواقع الإنترنت (لإقامة علاقات بين البالغين) يتيح لمستخدمي الموقع تقييم الناس بشكل عشوائي.
بعد حزم أمرهم، أتيح لبعض مستخدمي الموقع أن يروا معدل الدرجات التي حصلوا عليها من زوار آخرين للموقع. رغم أنه لم تكن هناك إجابات “صائبة” أو “خاطئة”، فإنهم سرعان ما تعلموا أي الأنواع أثبتت شعبية أكثر، وبدأوا في تقييم وجوه الآخرين على غرار تلك الطريقة.
وبعد فترة، تقاربت أذواق الجميع، فقد تغير مفهومهم للجمال بمجرد استخدام ذلك الموقع. حصل ذلك بالرغم من حقيقة أن العملية كلها كانت مجهولة الهوية تماماً، ولم يكن هناك مفر من مجاراة الواقع.
يسهل تصور استفادة بعض المشاهير من هذا النوع من سلوك مجموعة من الناس. فعلى نطاق أصغر، يمكنك أن تحقق تأثيرات مماثلة وببساطة عن طريق رؤيتك وأنت تصادق وتخرج مع أشخاص يحتمل أن ترتبط معهم بعلاقة ما، مثل أشخاص من الجنس الآخر.
سيفترض الآخرون بأنكما ملائمان لبعضكما فعلاً، ويحذون حذوكما.
كما أن انجذابنا نحو شيء ما يتشكل عن طريق ألفتنا لذلك الشيء: فكلما رآك الناس بمظهر معين أكثر من غيره، زادت جاذبية ذلك المظهر.
ويقدم لنا هذا درساً مهماً في وقت تصبح فيه عمليات التجميل هي القاعدة. فبدلاً من تغيير شكلك غير العادي ليتماشى مع موضة ذلك الزمن، بإمكانك استعمال شكلك لتغيير الموضة.