يروي جون فرايم في هذا المقال مغامرات فريق خاص من العلماء الصيادين الذين قاموا برحلات قنص عديدة في مجاهل افريقيا وكانوا يتوخون منها ليس قتل الحيوانات الكبيرة والعودة بطرائد تشهد لهم بالبراعة ، بل دراسة بعض تلك الحيوانات والعمل على الحيلولة دون انقراضها إما بسبب من العوامل الطبيعية ، أو بسبب من شهوة الصيادين .
قال فرايم :
كانت أنثى وحيد القرن وعجلها يرغوان ويزبدان غيظاً منا وهما هاربان أمام سيارتنا في سهل فوهة نغورو ، وكانت البهائم البرية الأخرى تتبعثر هرباً منا جميعاً .
وما أن بلغنا مسافة لا تزيد على الثلاثة أمتار وراء البقرة وعجلها حتى اتكأ جون غودارد ،وهو عالم الأحياء المتوحشة في الفريق ، على حافة نافذة السيارة وصوب بندقيته نحو البقرة وأطلق عليها النار .
لم يكن هناك أي شك في أن الطلقة أصابت هدفها إصابة محكمة جعلتني أصبح بابتهاج ظاهر ” لقد أصبتها” ومع ذلك لم يبد أن البقرة البالغ وزنها أكثر من طن تأثرت من الإصابة .
ومضى الحيوانان يعدوان بسرعة 50 كيلومترا في الساعة ونحن في أثرهما . ولقم جون بندقية بقذيفة أخرى صوبها نحو العجل الذي كان يعدو أثر والدته . وانطلقت الطلقة الثانية وأصابت هدفها بدورها وصحت بدوري ” لقد أصبت الهدف ياجون ، يا سوان انديشا بول بول “.موقع طرطوس
لقد انتظرنا طويلا ذلك لأن الاصابتين المحكمتين تشكلان مرحلة هامة من الدراسة البيئية والتصرفية التي نجريها على وحيد القرن الأسود في أفريقيا الشرقية .
وماذا كانت القذيفة في كل من الطلقتين أنها عبارة عن إبرة تحتوي على مقدار موزون بدقة من مادة مخدرة لتبنيج الحيوان ودرسه عن كثب ووضع علامة معدنية في أذنه . ذلك أن وحيد القرن الأسود اللون معروف بأنه أكثر فصائل وحيد القرن استفراسا .
وعندما يخدر الحيوان وينطرح أرضاً بعد إصابته بزهاء عشر دقائق يصبح بإمكاننا الاقتراب منه وأخذ قياسات تقاطيع جسمه وردة فعله الفيزيولوجية للبنج ، وأخذ عينات من الحشرات الطفيلية التي تعيش بين ثنايا جلده . ونتمكن أيضاً من فتح فمه وفحص أسنانه لمعرفة عمره التقريبي .
وتنتج لنا هذه المعلومات تفهما أفضل عما إذا كانت هذه الحيوانات مستقرة العدد أو أخذة في الازديار أو في النقصان . كما وأن معرفة حالة هذا الحيوان الصحية في مختلف الأوضاع الطبيعية تساعدنا مساعدة حيوية في تخطيط وإدارة المناطق التي ستحفظ له ليعيش عليها دون أن ينقرض .
صيد مستمر
منذ قرون طويلة والصيادون يبطشون بقطعان هذا الحيوان الذي يوجد منه خمس فصائل مختلفة ثلاث منها في آسيا واثنتان في أفريقيا . وقد نشط الصيادون في قنص هذا الحيوان بشراسة من أجل قرنه الذي ينمو كلياً فوق الجلد دون جذور تحته . ويتألف القرن من مادة قرنية صرفة يتماثل تركيبها الكيماوي مع تركيب أظافر الإنسان وشعره .
ويسود الاعتقاد في بعض مناطق آسيا أن لقرن هذا الحيوان قيمة طبية في كونه علاجا للعجز الجنسي . فإذا اقترن هذا الاعتقاد الخاطيء بأن لمختلف أجزاء جسم وحيد القرن فوائد طبية مختلفة يتواجد التفسير للسبب الذي من أجله عمد الكثيرون على صيده دون رحمة مما جعل إمكانات بقاء فصائله الآسيوية أمراً مشكوكاً فيه .
ويبدو أن الفصيلتين السوداء والبيضاء المتواجدتين في أفريقيا مشرفتان على مصير مماثل للفصائل الآسيوية . فبسبب النقص المتزايد في إعداد هذا الحيوان في آسيا آخذ الصيادون يتوجهون إلى أفريقيا بحثاً عن قنصه . ولكنه من حسن الحظ أن قطعان الفصيلتين الافريقيتين أكثر عددا وأن الإجراءات تتخذ في الأقطار الأفريقية للحيلولة دون انقراض هذا الحيوان .
أن مقارنة المعلومات المجموعة عن وحيد القرن الأسود في نغورونغورو بتلك المجموعة عنه في الدوباي ( وأكثرهما في تنزانيا ) تعطي فكرة مفيدة عما يفضله هذا الحيوان. ولكن استكمال مثل هذه الدراسة يستلزم القدرة على معرفة كل حيوان بمفرده ومن هنا تأتي أهمية وضع علامة فارقة على كل واحد .
وليست بندقية البنج السلاح الوحيد المستعمل في المعركة الرامية إلى الحيلولة دون انقراض هذا الحيوان . فهناك المنظار المقرب وآلة التصوير والسيارة . وليس باستطاعة المراقب أن يكتفي بالأقتراب من الحيوان مسافة 20 أو 40 مترا بالسيارة أو على القدمين . فمن مثل هذه المسافة نستطيع رؤية جميع التفاصيل بدقة إذا كانت الأرض خالية من الشجيرات أو الأعشاب المرتفعة أو الغزار الكثيف . أما في الادغال الكثيفة فينبغي تسلق الأشجار للإشراف على الحيوان . ونحتاج في بعض الحالات إلى تقليد أصوات العجول مما يجعل الحيوان البالغ يقترب من الشجرة بحثاً عن العجل .
وتستعمل الصور الفوتواغرافية والملاحظات الخطية الدونة بدقة عن كل حيوان بمفرده لجمع كتاب يتضمن سيرة تلك الحيوانات في المنطقتين اللتين تجرى الدراسة فيهما .
حياته اليومية
وتغلب على وحيد القرن الأسود البالغ الرغبة في انعزال والوحدة . ويشاهد الذكور منها عادة منفردين كما أن إناثها تنزع إلى العزلة ،كل واحدة منها مع عجلها .
وبعد أن يكبر العجل منها قليلا وقبل أن يدخل طور البلوغ تطرده أمه عنها إذا كان قد ولد لها عجل جديد .وعندها يسعى العجل غير البالغ بعد إلى مرافقة حيوان آخر وكثيراً ما يترافق مع عجل آخر في مثل سنه وحالته .أو يرافق أنثى أخرى بالغة .
وكان أكبر قطيع من هذه الحيوانات شاهدته في مختلف جولاتي يتألف من 13 وحيد القرن المبنج وقد قلب على ظهره لوضع العلامات عليه وأخذ قياسات جسمه وردة فعله للبنج ، وفحص أسنانه ومثل هذه الدراسات تساعد في محاولة الحفاظ على هذا الحيوان من الإنقراض .
**
ولكن الحيوانات بدأت تتفرق بعد ساعتين في زمرات صغيرة مؤلفة من رأسين أو ثلاثة ومنها من ذهب بمفرده . ولكنني لم أشاهد مثل هذا العدد منها معاً إلا في تلك المرة خلال السنوات الثلاث التي قضيتها في مراقبتها مراقبة يومية .
ويبلغ هذا الحيوان ذروة نشاطه اليومي خلال الساعة التي ترافق الفجر وكذلك خلال ساعة الفسق .وفي تينك الساعتين كان معظم الحيوانات التي راقبتها يرعى أو يمشي نشاط ظاهر .
وعند منتصف النهار يظهر أن النعاس يدب في أكثرها فتراها راقدة في ظل شجرة أو في حفرة من تراب تحت أشعة الشمس الحارقة . وتتخلل رقادها النهاري هذا يقظة قصيرة لتناولها قضمة أو قضمتين من أقرب الأعشاب إليها .
في الليل
ويستدل من مراقباتنا الليلية أن أكثرية هذه الحيوانات تنشط في الليل الحالك وأن كانت تنام جزءاً منه . وليس من المستحسن أن يقوم الإنسان بمراقبة هذه الحيوانات في الليل متنقلا على قدميه لذلك نستعمل السيارة .
وقد لاحظنا أن لكل واحد منها ردة فعل مستقلة عندما يشاهد مصابيح السيارة . فقد عثرت في إحدى جولاتي الليلية في السهول الممتدة إلى الجنوب من وادي أولدباي ، على بقرة وعجلها وكانا مستلقيين على الأرض . فما أن شاهدا المصابيح حتى ذعرا وفقا على قوائمهما وأخذا يدوران كل منهما على نفسه عدة دورات بخفة لا يتقعها الانسان من حيوان بهذه الضخامة . وأبقيت السيارة جاهزة للهرب أن هما قرراً مهاجمتها . وفي هذه الأثناء كانت الأم تنطح الهواء بقرنها .
وأخيراً وبعد زهاء عشر ثوان خلتهما دهراً استدارا معاً موليين الأدبار عن مصدر النور .
وعلى النقيض من ذلك ترى أن معظم هذه الحيوانات المقيمة في نغورونغورو قلما تخاف أنوار السيارة . وكثيراً ما لم تبد سوى حركة بسيطة تدل على بعض الامتعاض .
ثم أن وحيد القرن الأسود حيوان مجتر وشفته العليا قوية تتلاءم مع طريقته في تناول طعامه . وقد راقبت أحد الحيوانات يستعمل قرنه الخلف ليجر به فرعا من شجرة قطره 10 سنتيمترات ويقطعه ، وفعل ذلك مرات متتالية وأظن أن وحيد القرن الذي لا قرن رئيسيا له ربما كان قد كسره في صغره أثناء عمليات كهذه ولست أعتقد بأنه فقده في عراك مع غيره من الحيوانات .
وفي وادي الدوباي كنت ألجأ في مراقبتي لهذه الحيوانات إلى تسلق الأشجار كي تتسنى لي رؤية أفضل لها وهي تأكل بين أشجار الوادي الكثيفة ، أما السبب الثاني الذي حملني في بعض الحالات على تسلق الأشجار فهو أنني اضطررت إلى ذلك أكثر من مرة . ذلك أن التلصص على حيوان شديد البأس يبلغ وزنه أكثر من طن بين الشجيرات والأعشاب أمر فيه الكثير من المخاطرة ويتطلب رباطة جأش بالغة وأعصاباً متينة . فعلى الإنسان في مثل هذه الحالة أن يختبئ في مكان يأتيه النسيم من جهة الحيوان ، وأن يحافظ على هدوء وصمت تأمين .
وكانت محاولاتي الحريصة تخونني في بعض الحالات مما يضطرني للركض بأقصى سرعتي وتسلق أقرب شجرة لأن في أثري أحد تلك الحيوانات يطاردني بلا هوادة ليغرز قرنه في جسدي أو ليحطمني بدوسة من خفة . أما الآن قد نسيت هلع تلك الساعة وألم جراحي من تسلق الشجرة الشائكة فإنني أتذكر تلك المغامرات بلذة ورضى .
هذا ، ومن عادة وحيد القرن أن يسير في طريق معينة وفي أوقات معينة مما يجعل تتبعه بالنسبة إلى الصيادين المحليين أمراً سهلاً . وعندما يتمكن الصياد من فريسته يقتلها ويقطع قرنيها ويترك باقي الجثة .
* عجل صغير من عجول وحيد القرن يقتاد إلى منطقة الأبحاث لوضع العلامات المميزة عليه ولإجراء بقية الدروس ، وتراوح حياة هذه الحيوانات بين 30 و 40 سنة .
وليس من عادة الكواسر أن تهاجم وحيد القرن ولكن مثل ذلك قد يحدث بين آن وآخر . فقد شاهدت مرة أسداً يهاجم عجلا عمره 11 شهراً وكانت أمه وقد سميناها فيليسيا بقربه ولها قرن مستقيم بالغ .
* فريق من العلماء في أفريقيا الشرقية يقود ثورا مبنجا من وحيد القرن الأسود ن وهو من أشد فصائل هذا الحيوان استغرابا ، إلى منطقة العمل حيث ستوضع في أذنه العلامات المميزة وتجري عليه بقية الدروس والمراقبة .
الجمال والتناسب مشرع مثل السيف المصقول . شاهدت فيليسيا الأسد يقترب من ولدها واستعدت لرد الهجوم ولكن الذعر استولى على العجل فولى هاربا وأخذ الأسد يطارده .
انطلقت فيليسيا في أثر سيد الغاب الذي شعر بخطرها المداهم فاستدار اليها وأطبق فكيه على رجلها الخلفية وانشب مخالبة في ردفها .ولكنها استدارت بخفة لا تصدق ولا توصف وطعنت غريمها بقرنها الحاد في ضلوعه ثم في عنقه وتحت فكه فقتل على الفور .
ويحدث في بعض المرات أن ينتقل أحد الحيوانات إلى منطقة يعتبرها حيوان آخر حرما له . وهنا تحدث اصطدامات بين الذكور البالغين .وقد شاهدت أحداهما وبقيت صورتها عالقة في ذهني . كان في منطقة غنية بالماء والمكلأ ذكر هاديء الطبع اسميناه هوراس .وفي أحد الأيام دخل ذكر آخر آتيا من منطقة مجاورة حرم هوراس الذي هاجم الحيوان المتطفل بشخير مرعب وعرعرة مقلقة .
وقف الثوران وجهاً لوجه وقد خفض كل منهما رأسه وحنى أذنيه إلى الوراء ورفع ذنبه بموازاة ظهره . ولم يستجب الثور المتطفل لإنذارات هوراس ولكنه لزم مكانه بصمت وكان قرن الواحد منهما لا يبعد سوى سنتيمترات قليلة عن قرن الاخر .
شرع الثوران كل يقرب رأسه من رأس الاخر دون أن يتماسا . وفجأة أخذ المتطفل يتراجع وهوراس يتبعه إلى أن أخرجه من حدود حرمه .
بعض خصائص الحيوان
لوحيد القرن الأسود حاستان قويتان هما حاسة السمع وحاسة الشم ولكن حاسة البصر عنده ضعيفة جداً . وقد اتضح لي ذلك عندما كنت أراقب واحداً منها في السهول الرملية الكثيرة الرياح عند وادي الدوباي .
كنت في السيارة أراقب السهل بالمنظار المكبر . فشاهدت اثنين منهما على بعد ميلين أو ثلاثة أميال مني . توجهت برفقة السائق نحوها عكس الريح واقتربنا منهما بالسيارة حتى مسافة زهاء 150 مترا وعندها غادرت السيارة وأخذت أزحف نحوهما بكل بطء وحذر متقدما بضع خطوات في كل مرة . ولما بلغت مسافة عشر أمتار فقط من أولهما شعرت بأنني أتوكل على الحظ أكثر مما يقبله العقل السليم .
وبالرغم من أني كنت مكشوفاً تماما بالنسبة اليهما فلم يشعرا بي إطلاقاً ذلك لأن الريح التي كانت تعصف بقوة باتجاهي لم تسمح لهما بسماع حركتي ولا بشم رائحتي . وبعد أن راقبتهما يأكلان زهاء ساعة من الزمن تراجعت إلى السيارة مثلما تقدمت ، بكل بطء وانتباه .
وفي نغورونغورو أو الدباي تأتي الأنثى البالغة بمولود جديد مرة كل أربع سنوات .
ويبلغ الحيوان من وحيد القرن اكتماله الجنسي في سنته الخامسة أو السادسة ، ويعيش من 30 إلى 40 سنة . وقد بلغ تعداد وحيد القرن الأسود في نغورونغورو 110 رؤوس كما أننا استطعنا أن نتعرف على 74 راساً في الدوباي . ولاحظنا أن عدد هذه الحيوانات سبع رؤوس في السنة في المنطقة الأولى وخمسة رؤوس في المنطقة الثانية . وإذا ما أخذنا بعين الإعتبار ما تفقده هذه القطعان سنويا بالموت الطبيعي وبهجمات الحيوانات الكاسرة عليها ، تبين لنا أن مجال تكاثرها محدود جداً . ومن هنا يتضح أن هذه الفصلة من الحيوانات ستكون معرضة للإنقراض الحتمي بمجرد أن تتناقص سنويا بنسبة مئوية ضئلة جداً .
وقد بات” وحيد القرن الأبيض الذي يستوطن القارة الأفريقية أكثر ندرة . فقد اعتبر أن صيده في الكونغو بلغ نسبة انقراضية في سنوات عدم الاستقرار الست التي اجتاحت البلاد وقتل فيها من 80 إلى 90 بالمئة من هذه الحيوانات لغياب الرقابة الحكومية عن صيدها . ومع ذلك يرى المراقبون أن محنة وحيد الرقن في أفريقيا أخف وطأة من محنته في آسيا . ذلك أن مجمل ما بقي في الهند منها حتى الآن يقدر بزهاء 700 رأس فقط ، في حين أن عددها في سومطره لا يتجاوز 180 راًسا . ويكاد يكون وحيد القرن قد انقرض في جاوه إذ يعتقد أن ليس في تلك الجزيرة الكبيرة ذات الأدغال الكثيفة سوى 25 رأسا من هذا الحيوان .
وقد كان لحرب فيتنام آثرها في إبادة هذا الحيوان هناك إذ أن برنامج الجيش الأميركي الرامي إلى تعرية الأدغال قد كشف عن تلك الحيوانات حماية الطبيعة لها . وهذه التعرية كان من شأنها القضاء على وحيد القرن وعلى الكثير من الحيوانات الأخرى . وأخذ تجار سايغون يتحدثون بالتالي عن إمكانهم بيع القرن الكبير من قرون هذه الحيوانات بسعر ألفي دولار .
ويبدو مستقبل وحيد القرن قاتما في جميع الاقطار التي يوجد فيها هذا الحيوان باستثناء بعض الدول الافريقية .