أتخيل أن “بول سايمون” يعيش بيننا ويصف حالنا حينما قال:
“في ظلمات الليل العارية.. شاهدت عشرة آلاف شخص… أشخاصاً ينطقون ولا يتكلمون.. أشخاصاً يسمعون ولا ينصتون.. أشخاصاً يكتبون أغنيات لن تُنشد أبداً” لأن الكثيرين بيننا أصبحوا غير قادرين على التواصل والتفاعل الناجح والمؤثر والمُغيِّر، لفقدانهم الإحساس بالمسئولية..
يعيشون حياة أغلبها. طلب للحقوق، وأقلها قيام بالواجبات، أغلبها مطالب وأقلها مسئوليات، لا يعتمدون على أنفسهم، وإنما يظلون عالة على غيرهم في كل ما يجلب لهم الراحة والترف، فاقدين الشعور بالظروف والمتغيرات، والواقع المعاش بكل همومه وأمواجه المتلاطمة، تماماً مثل طفل يرضع من أمه، هي تتناول طعامها وتهضمه وتتمثله، ويتحول في جسدها إلى لبن يرضعه دون تعب أو عناء، أو أدنى مسئولية، وتستمر حالة الرضاعة هذه في حياته من فم المدرس وفم المحاضر بالجامعة، ثم يتخرج طالباً الرضاعة من الحكومة في كل أمر، فعليها أن تفعل له كل شيء، بل ويطلب من كل من حوله أن يكون مسئولاً عن كل شيء، أما هو فليس عليه أن يتحمل شيئاً لأنه يعيش حالة رضاعة حتى الموت، مما يستحيل معها اكتمال رجولته أو نضجه نتيجة لفقدان الشعور بالمسئولية تجاه نفسه أو أسرته أو مجتمعه.
إن تربية الشعور بالمسئولية على جانب كبير من الأهمية في بناء الأفراد والمجتمعات، ولا يمكن القيام بذلك إلا عن طريق الممارسة، والشعور الفعلي بالمسئولية، فالمركزية تُعوِّد الناس على عدم تحمل المسئولية، مما يؤدي إلى هبوط مستوى العمل، ومستوى الإنتاج وعدم القدرة على اتخاذ القرار، ويظهر ذلك أيضاً في سلوك الأب الذي يجنب زوجته وأولاده المسئولية فيقوم باختيار ملابس أبنائه، واختيار أصدقائهم، وبمسئولية اختيار ألعابهم، بل وتذهب بعض الأسر إلى أبعد من ذلك، فيقومون باختيار الزوجة للابن، أو الزوج للابنة، ثم يستمرون في التدخل في تفاصيل حياة أبنائهم حتى بعد زواجهم، ويبررون ذلك بأنهم يخففون عن أبنائهم، عطفاً عليهم، إلا أن حقيقة الأمر وواقعه غير ذلك لأن هذه التنشئة تنشئة خاطئة، تولد الكثير من التذمر والشكوى، لأنها تنشئة العبيد التابعين، المنفذين كل الرغبات، الفاقدين للثقة في أنفسهم والعالم المحيط بهم، لأن تحمل المسئولية ليس إلا صورة من المشاركة والبذل.
أن الشخص الناجح المتوافق توافقاً كاملاً مع المجتمع، هو من يحس بالمسئولية إحساساً متزناً سوياً سواء كان ذلك نحو نفسه أو نحو الآخرين، فهو يهتم بنفسه ويحترمها، كما يهتم بغيره ويحترمهم، يرغب في تحمل نصيبه من العمل، وينجز التزاماته، ويعتمد على نفسه، دون أن يسبب لغيره متاعب لا لزوم لها، يعرف قدر نفسه ويتحمل مسئولية آرائه وشعوره وتصرفاته، مُجِداً في عمله، فيكون والداً فاضلاً، وزوجاً صالحاً، وزميلاً صادقاً، وجاراً طيباً، إنه في النهاية إنسان مسئول وليس طفلاً يعيش حالة الرضاعة حتى الموت.
بقلم: إبراهيم عوض