بالنسبة للبعض، تقدم التكنولوجيا القابلة للارتداء والأجهزة المدمجة رؤية رائعة لمستقبل “ما بعد الإنسانية”، والذي تطور فيه التكنولوجيا إلى حد كبير من القدرات الفكرية والبدنية والنفسية المتواضعة للجنس البشري. أما بالنسبة للآخرين، فانها ليست إلا خطوة مخيفة أخرى على طريق الانسلاخ الرقمي للبشرعن بيئة كوكبه.
في كلتا الحالتين، لا يمكن إنكار احتياجنا لتلك الأجهزة.
تتوقع شركة “آي دي تيك اكس” الناشئة لأبحاث التكنولوجيا بأن تجارة منتجات التكنولوجيا القابلة للارتداء سترتفع من 20 مليار دولار أمريكي في عام 2015 إلى قرابة 70 مليار دولار في عام 2025.
قد تبدو هاتان السماعتان وكأنهما زوج آخر من سماعات “بلوثوت” رأسية أنيقة، لكن سماعتي الأذن الأنيقتين أحاديتي اللون في هذا الفيديو لشركة “كيكستارتر” لم يجر تصميمهما للاستماع إلى الموسيقى. يطلق على هاتين السماعتين اسم “هير”، وهي أول منتج “سمعي” من شركة “دوبلر لاب” ومقرها سان فرانسيسكو. الهدف منها هو جعل تجربتنها الخاصة بالاستماع للعالم من حولنا تلائم اختياراتنا ورغباتنا الشخصية.
سواء كنت تريد كتم صوت بكاء طفل وأنت تسافر في قطارات الأنفاق أو أن تزيد من صوت تغريد طير من بعيد أو أن تضيف صدىً مضحكاً لصوت مديرك، فإن سماعات “هير” للأذن تتيح لك انتقاء وتنقية أصوات بيئتك اليومية المحيطة عن طريق منصة لمزج الأصوات المتزامنة يجري تشغيلها عن طريق الهاتف الذكي.
وقال “فريتز لانمان”، الرئيس التنفيذي لشركة “دوبلر”، في تصريح مؤخرا لمجلة “وايرد” إن “السمع هو من خصال البشر، ونريد أن نجعل ذلك أمراً رائعاً”.
لعل من السهل أن نتخلص من أجهزتنا الحالية الثقيلة والبالية، فإن أساور اليد التي تقيس عدد السعرات الحرارية تقوم بوظيفة أسوأ من المعدة العادية. يمثل تعطشنا للمنتجات التكنولوجية القابلة للارتداء رغبة لمجاراة أفضل الأمور الموجودة في الطبيعة، لكنها تقودنا بشكل سوداوي لتحولنا إلى كائنات أشبه بمخلوقات “سايبورغ” الخيالية المنيعة، التي هي مزيج من البشر والآلة.
بدءا من “الرجل العنكبوت”، “الرجل الوطواط”، “المرأة القطة” و فيلم “ولفيرين” إلى “الرجل النملة” وهو بطل آخر أفلام شركة “مارفل”… فإننا نتخيل دائما قدرات لأناس خارقين باعتبارها نابعة من عالم الحيوان، بقدر ما هي آتية من عالم صناعة التكنولوجيا.
تتمتع الحيوانات منذ القِدَم بقدرات خارقة. خذ مثلاً مجال الملاحة. خرائط الواقع المرئي الافتراضي، والتي يجري تركيبها على النظارات، هي من ابتكارات الانسان المثيرة، إلا أن الطيور المهاجرة، مثل أوز الثلوج والعصافير قد استعملت منذ قرونٍ من الزمن وسائل متطورة ذاتية لتوجهها إلى مواطنها.
وسواء كنت ممن يتمسكون بنظرية أن هذه الحيوانات تستخدم استدلالات تتعلق بحاسة الشم لتحديد الأبعاد الثلاثية لمواقعها، أو كنت ممن يعتقدون بأنها تكشف التغيرات التي تطرأ على الحقل المغناطيسي للكرة الأرضية، فهناك أمرٌ لا شك فيه وهو أن بوصلتها الداخلية، والتي تستند إلى إيقاعات ساعاتها البيولوجية، هي جزء “تقني مدمج” جدير بالثقة أكثر بكثير من ذلك الموجود في ساعتك الذكية.
هناك مجالٌ متنامٍ آخر من مجالات الأجهزة القابلة للارتداء يستوحي أفكاره من الطبيعة. يركز ذلك المجال على جعل بصرنا ذا قوة خارقة.
كشف الباحثون السويسريون في فبراير/شباط الماضي عن نموذج أولي لزوج من عدسات لاصقة تلسكوبية بتقنية عالية تتيح لمن يضعها على قرنية عينيه أن يقرب أو يبعد مجال الرؤية عن طريق تحريك طرف العين.
وتنتظر شركة “غوغل” تسجيل براءة اختراع لعدسات تحوي كاميرات وأجهزة استشعار دقيقة جداً بمقدورها أن تساعد الأشخاص ضعاف البصر على رؤية طريقهم. كما ستمكِّن هذه العدسات عشاق موقع “انستغرام” للصور بأن يلتقطوا صوراً بغمزة العين.
تمثل هذه تطورات بارزة، لكنها لا تزال تشكل قوة رؤية بمقياس 1.0 مقارنة مع التكنولوجيا الذاتية لروبيان “المانتيس”. تتمتع هذه المخلوقات الصغيرة برؤية “عيون ثلاثية” بفضل أعينها المقسمة إلى ثلاثة أقسام. تحتوي أعين روبيان المانتيس على 12 من مستقبلات الضوء الملون (للجنس البشري ما مجموعه ثلاثة فقط)، وستة من هذه المستقبلات مخصصة فقط لأطياف الأشعة فوق البنفسجية. أما قدرتها الفعالة على كشف الضوء الدائري المستقطب فإنه يحول بيئتها إلى منظر محسن ثلاثي الأبعاد. ثم هناك من يتصدر موجة جديدة من محاولة صناعة أنسجة ذكية متطورة: جلود وريش وفرو الحيوانات.
حصلت مجموعة من الباحثين من جامعة كاليفورنيا، سان دييغو، مؤخراً منحة تبلغ 2.6 مليون دولار أمريكي من وزارة الطاقة الأمريكية لابتكار نوع من الملابس يمكنها أن تنظّم درجة حرارة الجسم باستعمال مواد البوليمر القادرة على التقلص والتمدد.
ربما يرى فريق الباحثين حاجة لدراسة أقدام البطريق الأمبراطوري (الاسم العلمي هو “أبتينودايتس فورستيري”). يستعمل هذا البطريق الذي يعيش في القطب الجنوبي نظام إستجابة مذله للصرف الحراري يعرف باسم “ريتي ميرابيل” (مصطلح لاتيني يعني ’الشبكة الرائعة‘)؛ حيث تقوم شبكة متقاربة من الشرايين والأوردة، المضادة للتدفق، بتصريف الحرارة فيما بينها باستمرار لضمان الإبقاء على درجة حرارة ثابتة.
الحيوان المدهش الآخر الذي يلهم خبراء التكنولوجيا “القابلة للإرتداء” هو صدفة محار البُصر (البطلينوس) العملاق (إسمه العلمي هو “ترايداكنا جينَس”). توجه خلايا زرقاء، يتغير لونها حسب زاوية النظر اليها، موجودة على شفتي هذا المحار أشعة الشمس نحو الطحالب الموجودة في صَدَفه، والتي تحول أشعة الضوء إلى طاقة عبر عملية التركيب الضوئي ـ مما يعني عملياً أن هذا الحيوان الرخوي هو لوحة حية من ألواح توليد الطاقة الشمسية.
إذا ما تقدمنا بسرعة إلى الأمام بضعة آلاف من السنين فسنجد مشروع “الألياف الشمسية”، حيث يعمل فريق من الفنيين والمصممين الهولنديين على تطوير نسيج ألياف ضوئية مرنة تحول أشعة الشمس إلى طاقة كهربائية. وآخر منتج ابتكره هؤلاء الخبراء هو “الشال الشمسي”، والذي يعرض حتى كمية الطاقة المولدة في الوقت الحقيقي على الشال نفسه.
هذه التقنيات الذاتية الطبيعية لا تُلهم التقنيين فحسب؛ لكنها تستخدم كأساسيات لإدارة أمور الحياة اليومية المهمة. تركز شركة “بايوكوتشور” ومقرها لندن على استخدام مواد عضوية وكائنات مجهرية مثل السليلوز والفطريات والطحالب لـ”صناعة” ملابس ذات وظائف خارقة تفيد في الموضة والملابس الرياضية والمصنوعات التجارية الفاخرة.
كما رأينا، هناك عدد كبير جدا من المواد الطبيعية تتمتع بمواصفات ذات تقنية عالية. لا عجب إذاً أن تصف عالمة الأحياء “تشيريل هاياكسي” هذه المواد بأنها “إحدى أهم المواد ذات الأداء العالي التي يعرفها الإنسان.” جدير بالذكر أن “هاياكسي” متخصصة في تحديد أحدث الاستخدامات الممكنة لحرير العناكب، مثل الملابس الخفيفة المضادة للرصاص.
وحيث أن التكنولوجيا القابلة للارتداء أصبحت جزءا من أجسام البشر، كيف يمكن لنا أن نحمي الأماكن والأزمنة التي نختبر فيها أجسامنا، وعلاقتنا مع الطبيعة؟ إذا كنا بالكاد نبعد أنفسنا عن موقع فيسبوك الاجتماعي، بالرغم من معرفتنا أنه قد يؤدي إلى نتائج سلبية تؤثر على سعادتنا وهويتنا في عالمنا الحقيقي، فإلى أي حد يمكننا أن نفرض ضبط النفس عندما تكون أجهزتنا مدمجة في أذرعنا؟
بالطبع، يتوجب علينا أن نتخيل المستقبل قبل أن يصبح حقيقة، وأدمغتنا الصغيرة هي أشياء استثنائية. لعل أفضل تصور للمستقبل سيأتي من الرصد الدقيق للعالم كما هو عليه: إنها مهارةٌ تتطلب منا الانتباه لما هو موجود، في كل مكان حولنا، وفي هذه اللحظة.