يفضي تبريد اللبن الرائب وتسخينه إلى إحداث عملية كيمياوية مدهشة، تقود إلى إعداد إحدى أكثر المواد الغذائية المحبوبة والتي تتسم بطابع ملطف ومريح للمعدة، وهي الزبادي.
في الوقت الحاضر، يحظى الزبادي بشعبية كبيرة. وفي هذا الإطار، لاقت تشكيلة المنتجات المتنوعة من نوع الزبادي المُصفى، المعروف باسم “الزبادي اليوناني”، شعبية بين المستهلكين بسرعة كبيرة وعلى نحو غير متوقع.
وصار إعداد هذه المنتجات يُشكّل صناعة تبلغ قيمتها حاليا مليارات الدولارات، رغم أنه لا يوجد حتى الآن من يمكنه أن يحدد بدقة كيفية التعامل مع كل ما يتبقى من تلك المادة المعروفة باسم “مصل اللبن”، التي تُخلّفُها عملية إعداد هذه المنتجات.
وقد كتب الكثير جدا عن الفوائد الصحية المفترضة لتناول البكتيريا الحية التي يحتوي عليها الزبادي. بجانب ذلك؛ من اليسير إعداد هذا المنتج الغذائي في المنزل، بل إن محبي الاطلاع والتعلم ممن يُقدِمون على ذلك، شرعوا في مشاركة بعضهم البعض خبراتهم في هذا الشأن عبر موقع (يوتيوب) على شبكة الإنترنت.
إذ يضعون حرفيا تلك المادة اللزجة تحت المجهر ويتساءلون بصوت عالٍ قائلين: ” تباً، ما الذي يجري هنا؟” الإجابة على هذا السؤال تتمثل في الكثير من التفاعلات الكيمياوية التي تخلب الألباب.
يمكن القول إن إعداد الزبادي ما هو إلا عملية تخثير للبن الحليب تجري في إطار ظروف متحكم بها. وتشهد هذه العملية – في الأساس – إجبار اللبن الحليب على الانحلال بطريقة خاصة للغاية.
ومن أجل وضع الأسس الضرورية للحصول على القوام النهائي المطلوب للزبادي، تعمل الشركات المُصَنِعَة لها على خض الحليب بداخل جهاز يشبه كثيرا الآلة التي نستخدمها لغسيل الملابس.
ويؤدي ذلك إلى تغيير البنية الدقيقة للبن الحليب من خلال تفتيت الكريات الدهنية التي يحتوي عليها، لينتج عن ذلك الكثير من الكريات الأصغر حجما. بعد ذلك، تشكل البروتينات التي يحتوي عليها اللبن الحليب ما يشبه الغشاء الجلدي حول كل من هذه الكريات.
ويعني ذلك أنه عندما يُحَفْز الحليب ليتخثر، وتبدأ البروتينات الموجودة فيه في الالتصاق ببعضها البعض؛ تتوزع الدهون على نحو متساوٍ بشكل أكبر، بين مختلف جزيئات ما سينجم عن ذلك من زبادي.
وهنا يظهر استخدام الحرارة في المشهد. فتسخين اللبن الحليب يساعد على القضاء على أي بكتيريا ضالة أو ضارة موجودة فيه، كما يؤدي إلى بدء عملية انتشار البروتينات ليتسنى لها تشكيل شبكة الجزيئات التي تقبع في قلب تركيبة الزبادي.
وتعتمد درجة الحرارة التي يتعين تسخين الحليب فيها، وكذلك مدة تعرضه لها، على النكهة التي نرغب في أن يكتسبها الزبادي. ففي عمليات التصنيع التجارية لهذا المنتج الغذائي، يتم تسخين اللبن الحليب في درجة حرارة 85 مئوية لمدة 30 دقيقة، أو لمدة خمس دقائق في درجة حرارة تتراوح ما بين 90 درجة مئوية و95 درجة.
وقد دوّنَ مصنعو جهاز لإعداد الزبادي في المنزل ملاحظة تفيد بأن ” الزبادي الذي يُعدُ من لبن حليب تم تسخينه في درجة حرارة أقل من 76 درجة مئوية يكون خفيف القوام وطازج في مذاقه، الذي يبدو مُشبعا قليلا بطعم الفواكه، وذا طابع لاذع بشكل أكبر.
أما الزبادي الذي يُعدُ من لبن حليب وُضع في درجة حرارة 90 درجة مئوية لمدة 10 دقائق يكون قوامه أكثر سمكاً على نحو ملحوظ، ويقل الطابع اللاذع لمذاقه، الذي يكون أقرب لمذاق القشدة وبنكهة البندق والبيض إلى حد ما.
وبمجرد أن يتم تبريد اللبن الحليب ليصل إلى درجة حرارة جسم الإنسان، وهي في حدود 37 درجة مئوية، يصبح جاهزا لعملية التخمير، التي يعتبرها كثيرون العملية التي تحدد طبيعة الزبادي وشكلها.
وعند درجة الحرارة هذه، ينمو ويترعرع أكثر نوعين شائعين، يسهمان في صنع الزبادي، مما يُعرف بالبادئات البكتيرية؛ وهما عصويات من سلالة (لاكتوبسليس ديلبروكي) البلغارية وكرويات تحمل اسم (ستربتكاكس ثرموفليس).
ومع نمو هذه البادئات البكتيرية؛ تمتص اللاكتوز – وهو سكر الحليب – مما يؤدي إلى تخمره وتحوله إلى حمض اللبنيك (اللاكتيك). وهكذا يتزايد هذا الحمض ويتراكم بالتوازي، مع تراجع درجة الحامضية في الحليب نفسه.
وهنا تتأثر البروتينات الموجودة في الحليب بمثل هذه التغيرات. فحتى تلك اللحظة، كانت هذه البروتينات تحتشد جنبا إلى جنب؛ إما حول كريات الدهون أو في مجموعات عنقودية صغيرة خاصة بها تستقر في مكانها بفعل ملح فوسفات الكالسيوم.
لكن هذا المركب الملحي يتحلل في ظل تدني درجة الحامضية. ونتيجة لذلك، تبدأ تلك المجموعات العنقودية في التشتت والتحلل.
فمع تراجع درجة الحامضية، تتشتت البروتينات التي كانت جزءا من المجموعات العنقودية، لتبدأ في الارتباط ببعضها البعض مرة أخرى، مما يؤدي لتشكل تكوين شبكي.
وتحصر هذه التكوينات الشبكية فيما بينها الماء وكريات الدهون في إطار سلاسل من البروتينات والعناقيد. وهنا يمكن القول إن الحليب قد تحول بالفعل إلى زبادي.
وعندما تُوقف عملية التخمير من خلال تبريد الزبادي، ينتج عن ذلك هُلام أو سائل متخثر. وتتضمن عملية إعداد الزبادي المُصفى – مثل الزبادي اليوناني- خطوة إضافية تنطوي على تفتيت هذا الهُلام من خلال تقليب الزبادي، ومن ثم فصل الماء والسكر والبروتينات عنها لِتُكَوِنْ ما يُعرف بـ”مصل اللبن”.
ويفضي ذلك لأن يكون قوام الزبادي أقرب إلى القشدة منه إلى الهُلام. ولكن حتى دون الوصول إلى مرحلة التقليب هذه، يمكن أن يتأثر القوام النهائي للزبادي بمختلف العوامل؛ بدءاً من درجة الحرارة التي يتم عندها تسخين الزبادي، وصولا إلى المحتوى البروتيني للحليب.
BBC