الغيرة ألم نفسي ينتاب المرء إذا وجد ما كان يأمل أن يكون له قد أضحى لغيره ، أو طمع في أن يكون له ما في يد غيره اعتقاداً منه أنه أحق به . وهي ظاهرة ضعف يشعر بها الضعيف نحو القوي والأدنى نحو الأعلى ، وتثير في نفس الغيور الحقد والكراهية .
والغيرة لدى الطفل ردّ فعل دفاعي ليثبت به وجوده . فهي وسيلة للتعبير الذاتي عن شخصيته ، وهي من ردود الأفعال المضرة التي تؤدي أحياناً إلى الانحرافات الخلقية من عناد ومشاكسة ، وانطواء ، وعدم ثقة ، وروح عدائية ، وعصبية ، وضعف في الدراسة ، وعدم تكيف مع مجتمع الأطفال . وتعدّ الغيرة من أكثر الأسباب التي تثير المشاحنات بين الأطفال في الرياض لأنّ كل طفل يريد أن يكون هو موضع الحب والتقدير .موقع طرطوس
ونورد بعض تعريفات الغيرة عند الطفل فمنهم من يقول إنها : ( حالة انفعالية يعانيها الطفل نتيجة لظروف معينة يتعرض لها ، وهي نوع من الخوف المشوب بالغضب نتيجة فقدان الصغير منزلة يحرص على الاحتفاظ بها سواءً كانت لدى والديه وحبهما له ، أو منزلة بين إخوانه وزملائه في المدرسة ) .موقع طرطوس
وهناك من يعرفها بأنها : ( استجابة انفعالية معروفة اجتماعياً ، وهي خليط من الغضب والخوف والحب ، وهي من الانفعالات الواضحة في الطفولة المبكرة ، وظهورها ينتج عن فقدان الطفل حب من حوله ، أو تصوره فقدان هذا الحب ) .
وثمة تعريف ثالث للغيرة بأنها : ( ذلك الشعور المؤلم الذي ينتج عن خيبة شخص في الحصول على أمر مرغوب ونجاح شخص آخر في الحصول عليه مما يحرج ويحط من عزة النفس ) .
وعلى كل حال فإن الغيرة عند الأطفال بمفهومها الشامل هي ( مظهر طبيعي للنمو في الطفولة وليست مرضاً ، بل هي ألم داخلي عند الطفل وشعور بالمعاناة نتيجة منافسة واقعة بينه وبين من يغار منه بهدف الفوز والسيطرة ، وكل الناس على حظ ، ولو يسير ، من الغيرة ، ولولا ذلك لما كان هناك تنافس بين الأفراد والجماعات ، ولكن إذا زاد حد الغيرة عمّا هو مألوف أصبح مصدر شقاء وتعاسة ) والشعور بالغيرة مرتبط بنمو المشاعر والعلاقات ، والطفل يبني أولى علاقاته مع الأم ، ويبدأ الارتباط العاطفي والحسي معها منذ الأيام الأولى للولادة ، وخلال سبعة أشهر تقريباً من الولادة تصبح العلاقة بين الطفل والأم علاقة قوية مليئة بالعواطف المتبادلة حيث تتوطد علاقات الانتماء العاطفي ، وهذا الانتماء في نظر الطفل يمثل التملك والإقتناء ، ولذلك يحاول الطفل إبداء الرغبة في الاحتفاظ بما يملك ، أي الاحتفاظ بوجود الأم لأنها هي التي توفر له الإحساس بالأمان والتوازن العاطفي ، بل إن غياب الأم لأي سبب من الأسباب يؤدي إلى حالة من التوتر والقلق والخوف ، ويشعر الطفل بالغيظ عندما ينافسه أحد في الاستحواذ عليها أو على عواطفها ، وهذا الإحساس بتملك الأم هو الذي يظهر شعور الغيرة عند الأطفال . وعادة تظهر الغيرة في السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل ، وعندما يبلغ الطفل من العمر عشر سنوات فأكثر يكون التعبير عن الغيرة قد تحوّل إلى صور الوشاية بالشخص الذي يغار منه إلا إذا ساعدت ظروف البيئة المحيطة بالطفل على تخفيف وطأتها فاختفائها .موقع طرطوس
ويشير الدكتور ( سبوك ) إلى أن الغيرة أمر طبيعي ومنتشر بين معظم الأطفال إن لم نقل كلهم ، ويؤكد ( دجلاس توم ) أن الغيرة بين السنة الأولى والخامسة من العمر انفعال سوي وشائع بين كثير من الأطفال ، غير أن هذا الانفعال كثيراً ما يتطرف ويطغى على الشخصية ، وقد يكون سبباً من أسباب شقاء الفرد ، ويحول دون توافقه الاجتماعي .موقع طرطوس
ومن المفيد ذكره أن الغيرة إذا اشتدت عند المرء في صغره لازمته في كبره . فالطفل الغيور يصعب عليه أن يوثق صلاته مع أترابه ، ويشعر بالخيبة والإهمال والضعف والظلم فينغلق على ذاته ، ويميل إلى العزلة وتجنب الآخرين ، أو يسلك سلوكاً عدوانياً ليجذب إليه الأنظار ، وكل هذ التصرفات تجعل الطفل ، عندما يبلغ ، عاجزاً عن التكيف مع غيره وعن مشاركتهم متعهم وهناءتهم .موقع طرطوس
أسباب الغيرة عند الطفل :
يتصدر هذه الأسباب ولادة طفل جديد وتسمى عملية ( الخلع من العرش ) وهذا يهدد مكانة الطفل في الأسرة مما يثير لديه العدوان على ذلك الدخيل المغتصب ومحاولة إبعاده عن هذه المكانة ، وذلك بتصرفات عدوانية بحتة كالعض والضرب والقرص وإتلاف اللعب ، وقد يصل العدوان في غيبة الأبوين إلى درجة قد تكون أخطر من ذلك .
وقد يكون جهل الوالدين في التعامل مع الأطفال هو السبب في تكريس الغيرة في مثل هذه الحالة ، وخاصة عندما يفاجأ الطفل بأن أمه توجه عنايتها إلى الدخيل الصغير وتهمله ، فينتابه الهم والقلق . وما يزيد الأمر خطورة إبعاد الطفل الأكبر عن الدار لبضعة أيام ، ويكن الشعور بالغيرة أشد إذا لم تتح للطفل فترة زمنية مناسبة ليأخذ نصيبه من العناية والعطف والحنان .موقع طرطوس
ومن أسباب تولد الغيرة لدى الطفل لجوء الأب إلى مقارنته بأخ أو أخت في التحصيل الدراسي ، أو في القدرات العقلية ، أو في المواقف السلوكية ، أو في المظهر الخلقي خاصة إذا كانت هذه المقارنات تتكرّر وبشكل مستمر فإن ذلك يثير الغيرة بين الأطفال على الرغم من أن الآباء لا يقصدون من ذلك إيقاع الضرر بهم وإنما إثارة حماستهم للعمل والدراسة وهم لا يعلمون أنهم بهذه المقارنات يخلقون مشاكل نفسية لدى أطفالهم كالشعور بالضعة والنقص وعدم الثقة بالنفس ما يؤثر في توافقهم النفسي والاجتماعي داخل محيط الأسرة وخارجه .
وقد تكون أنانية الطفل الناتجة عن تدليله الزائد سبباً رئيسياً للغيرة لديه إذ إن إغراق الطفل بالعطف الزائد وتدليله وتلبية مطالبه ، مهما كانت تجعله يندفع إلى حب التملك كل شيء من دمىً ، وملابس ومأكولات ، كما أنه في هذه الحالة يحاول الاستحواذ على أشخاص كالأم والأب دون أن يسمح للآخرين بمشاركته بهم أو بأشيائه الخاصة .موقع طرطوس
ومن الأسباب الرئيسية أيضاً للغيرة حالة الشقاق والنزاع وتوتر العلاقة بين الأبوين ، وخاصة إذا كانت تحدث أمام الطفل مما ينعكس سلباً على حياته .
ومن أسباب الغيرة أيضاً اهتمام الوالدين بالإبن الأكبر وإحاطته بامتيازات خاصة وتعامل خاص مما يثير لدى الأطفال الآخرين في المنزل الغيرة تجاه أخيهم الأكبر .
مظاهر الغيرة عند الطفل :
تتباين وتتنوع أساليب التعبير عن الغيرة لدى الأطفال مما يجعل أمر كشفها وتشخيصها وتحديدها صعباً . فقد يعبر الطفل عن غيرته من أخيه المولود حديثاً بالنكوص في سلوكه إلى مرحلة سابقة من مراحل نموه والإتيان ببعض أنواع السلوك التي كبر عليها ولم تعد تناسبه مثل ( مص الأصابع ، أو الحبو ، أو اللجوء إلى البكاء والصراخ ، أو التبول والتبرز في ملابسه ، أو مطالبة الأم بإطعامه أو استعمال لغة الأطفال تقليداً لأخيه الصغير … ظناً منه أن هذه التصرفات من الأخ الصغير هي السبب في عناية أمه به ) .
وقد يعر الطفل عن غيرته باللجوء إلى حيل دفاعية يعوض بها ما فقده من حب الأم حسب تصوره ( كالتهتهة ، أو التبول اللاإرادي ، أو إظهار تخوفه من أشياء معينة ، أو التمارض ) كل ذلك في محاولة لاسترجاع ما فقده من عطف الأم .موقع طرطوس
ومن مظاهر الغيرة امتناع الطفل عن تناول الطعام وهذا يؤدي إلى نقص في الوزن واعتلال الصحة الجسمية والنفسية لدى الطفل مما يقلق راحة الأهل إلى حد كبير .
وقد تكون الغيرة مستترة تحت ستار من طاعة الأوامر والهدوء وإظهار المحبة للمولود وتقبيله وملاطفته لدرجة تنخدع معها الأم ، لكنه سرعان ما ينتهز غيابها لإلحاق الضرر بأخيه أو بلعبه أو بزجاجة رضاعته .
وقد يتخذ التعبيرعن الغيرة مظاهر عدوانية كأن يحاول الطفل الغيور عض الوليد الجديد ، أو صفعه ، أو دحرجته من سريره ، أو كتم أنفاسه ، وقد تتحول هذه المظاهر العدوانية إلى الأشياء فيدمر ويكسر الأواني ويعبث بزهور الحديقة وأثاث المنزل ، وقد يكون التعبير عن الغيرة بأسلوب العدوان اللفظي من قبيل الكلمات البذيئة والسباب وكلمات التحقير أو الألقاب التي تحط من قيمة الصغير .موقع طرطوس
علاج الغيرة :
هناك مجموعة من الأساليب والوسائل التي يمكن من خلالها معالجة ظاهرة الغيرة عند الطفل :
1- إن خير وسيلة لتجنب الطفل الشعور بالغيرة هي أن نشركه معنا في رعاية المولود الجديد بما يتناسب مع قدرته في هذا الصدد ، وسوف يجد في ذلك تقديراً له بدلاً من تحول الانتباه عنه ، كما أنه يتفق وميله إلى المشاركة في أعمال الكبار ما يدفعه للإهتمام بأخيه واللعب معه بحب وحنان .
2- يجب أن نتجنب تنويم الطفل الأكبر مع الأم في السرير فنجعله ينام في سرير مستقل ، وأن نعوده معاشرة الأطفال في الحضانة واللعب مع أولاد الجيران مما يقلل من تنشئته معتمداً بشكل مطلق على أمه وأبيه ، وحينئذ يسهل إبعاده عن الأم في حالة مجيء المولود الجديد دون أن يشعر بالغضب ودون أن تفسد علاقة الحب معها .
3- عدم الاهتمام الزائد بالذكور على حساب الإناث ، وعدم إعطاء الذكور الامتيازات وتفضيلهم على الإناث لأن ذلك يثير الغيرة في نفوس البنات ، ويخلق لدى البنت شعوراً بأنها الأضعف أو الأقل حظاً عند والديها .
4- يجب تجنب المقارنة بين الأبناء وعدم مدح أحدهم على حساب الآخر بسب الاختلاف في الهيئة الخلقية أو في التفوق المدرسي ، أو في السلوك ، أو في الجنس 00 فإثارة المقارنات المستمرة يؤدي إلى خلق وتكريس الغيرة في نفوس الأطفال .
5- عدم المبالغة في توجيه المزيد من الرعاية إلى الوليد الجديد وإهمال الطفل الأكبر ، بل يجب إعطاء كل طفل حقه في الرعاية بشكل عادل .موقع طرطوس
وأخيراً لا بدّ من القول : إن الأطفال هم أساس المجتمع وتبدأ تربيتهم وتكوين شخصيتهم السوية من داخل الأسرة ، وحتى نحافظ على توافقهم النفسي والاجتماعي يجب علينا أن نتفادى تكريس المظاهر السلبية في نفوسهم مثل العدوان والخجل والغيرة لأن الابتعاد عن أسباب المرض خير من علاجه ، وهذا ما تكرسه الحكمة القائلة : ( درهم وقاية خير من قنطار علاج ) …