في بعض رواياته، يتحدث الأديب الكبير نجيب محفوظ عن “الفتوات”. وهم أشخاص متجبرون، يفرضون سيطرتهم على الآخرين بالقوة، والكل يخضعون لهم خوفاً من بطشهم.. وهؤلاء الفتوات – في روايات الأديب الكبير – هم نماذج لكل من يمارسون العنف والقسوة والبلطجة، في كل زمان ومكان..
فهل نقول إن سلوكهم العنيف يُعد شجاعة؟ وهل توجد علاقة بين الشجاعة والعنف والبلطجة؟ من الممكن أن تكون الشجاعة دافعاً للسلوك العنيف. ولكن من المؤكد وجود دوافع أخرى معها، قد تكون عقداً نفسية، أو ميولاً عدوانية.. وهكذا تبدو السلوكيات ذات الطابع الإجرامي، التي يرفضها المجتمع، ويعاقب عليها القانون..
أما الشجاعة الحقة، فتكون مصحوبة بالأخلاق الحسنة والمبادئ الكريمة والمثل العليا.. وهي التي تسمى بـ “الشجاعة الأدبية” وهذه قوة دافعة لعمل كل ما هو حق وعدل، وكل ما هو إيجابي وبنّاء.. ونلاحظ أبرز ملامحها فيما يلي:
(1) إحقاق الحق: تعمل هذه الشجاعة على إظهار الحق ومساندته، برغم ما يواجه الشجاع من تحديات، وما يتكبده من تضحيات. ويتمثل ذلك في:
– الشجاع لا يكذب، بل يقول الحق والصدق. مع أن الصدق ليس سهلاً في كل الأحوال، بل كثيراً ما يكون النطق به أمراً بالغ الصعوبة والحرج.. ويدخل في هذا النطاق شهادة الحق. والتي قد تكون بالغة الصعوبة، كأن تكون ضد أحد الأقارب، أو أحد الأصدقاء.
– والشجاع يعترف بأخطائه، فكلنا نخطئ، فهذا شيء طبيعي، لأننا بشر. ولكن ليس كلنا يمكننا الاعتراف بأخطائنا، بل الشجاع فقط هو الذي لا يخشى أن يصرح بأنه أخطأ ولا يجد في ذلك حرجاً .. ويترتب على الاعتراف بالخطأ أمر إيجابي، إذ يمهد ذلك إلى إيجاد الصلح بين المتخاصمين، وإيجاد السلام والوئام..
– ويتصدى للأخطاء: الشجاع إذ يتصدى لما يراه حوله من انحرافات. ولكن لا يكون التصدي بالقوة الغاشمة، بل بكشف الأخطاء، ومواجهة أصحابها بكل لباقة. ويدخل ضمن الشجعان في هذا المضمار، أصحاب الأقلام الشريفة الذين يكشفون بكتاباتهم ما يرونه من ظلم وفساد في المجتمع الذي يعيشون فيه.. ولا يكترثون بما ينتج من متاعب تأتيهم في هذا السبيل.
(2) مواجهة الشدائد: كلنا كبشر معرضون لأن نجتاز في شدائد من أنواع مختلفة. وهذه تُظهر حقيقة كل واحد إن كان شجاعاً في مواجهة تلك الشدائد أم لا؟ أما الشجاعة الأدبية فهي تدفع للصمود والتحدي. فكم من صعاب هائلة تعترض المرء.. والأمر يحتاج إلى قدر كبير من هذه الشجاعة، فهي التي تعطي قوة إرادة دافعة، تتحدى كل الصعاب. ويتمثل ذلك في كل من ساروا على درب النجاح المحفوف بالأشواك، والمليء بالعقبات، وهم مصممون على النجاح، وبدون ضعف أو تخاذل.. وبكل تأكيد سوف يحققون ما يتطلعون إليه من نجاح منشود.
هذا وإن بعض المواقف الحرجة تحتاج إلى قوة الشجاعة، ليكون المرء قوياً متماسكاً، ليتمكن من تدبير أمره، والخروج من أزمته، فعلى سبيل المثال: لنفرض أنك رأيت أمامك فجأة شخصاً عزيزاً لديك، قد أصيب بحالة خطيرة. فالأمر يتطلب منك أن يكون لديك رباطة الجأش التي تجعلك تواجه الموقف بكل ثبات وإتزان، حتى يمكنك عمل شيء لإسعاف المصاب وإنقاذه، وإلا فإنك تتخاذل وتنهار بجانب المصاب!
(3) اتخاذ قرارات صعبة: تدفع هذه الشجاعة إلى اتخاذ قرارات صعبة بهدف التغيير للأفضل! فكم من أمور يكون المرء مقتنعاً بها، ولكنه مجرد اقتناع، بدون اتخاذ خطوات تنفيذية في هذا السبيل. ولكن الشجاع لا يتردد في اتخاذ القرار لتنفيذ ما يراه صواباً. ويدخل في هذا النطاق مسألة الصراع بين القديم والجديد، وكيف أنه يوجد أنصار للقديم، يعتبرونه تراثاً لا يجب تغييره. ولذا يقفون حجر عثرة في سبيل التجديد..
وهنا يبرز دور الأشخاص الشجعان الذين يبدأون بأنفسهم عملية التغيير، فيكونون مثالاً لغيرهم ليتبعوهم على طريق التقدم والتطور. وعملية التغيير هذه ضرورية جداً. فكل مجالات حياتنا تحتاج إلى تطوير مستمر.. ولكن الأمر ليس سهلاً، من حيث أن القديم له مؤيدوه، المدافعون عن بقائه.. ومع ذلك فكم من عادات وتقاليد كانت منتشرة – وبخاصة في الريف – وقد أصبحت هذه الآن في خبر كان، وذلك بفضل أناس شجعان تقدموا الصفوف، وقادوا مسيرة التقدم .. فيالها من شجاعة دافعة نحو التغيير والتطور!
هذه أبرز ملامح الشجاعة الأدبية، إنها قوة تبعث على القيام بكل ما هو حق وعدل، وما هو إيجابي وبنّاء.. إنها قوة تبعث على الثبات والصمود والتحدي.. وتعمل عملها في هدوء ولطف، بعيداً عن كل عنف وتجبر..
بقلم: إسحق جاد