مما لا شك فيه أن القصص والحكايات هي أول ما يخطر على البال عندما يذكر أدب الأطفال والحق إن شأنها في ثقافة الطفل وتربيته شأن بالغ الأثر ، ولا سيما أن الطفل بسماعها وتذوقها منذ نعومة أظفاره على لسان جدته وأمه وأقاربه أو أحد المحيطين به .
ولقد أدرك المربون دوماً أهمية القصة في تربية الأطفال وتنشئتهم فهي تعرف الأطفال بتراثهم الأدبي ، وتساعدهم على فهم النفس البشرية ودوافعها ، وتنمي خيالهم وقدرتهم على الإبداع والابتكار وتمكنهم من تذوق الجمال ، وتغني ثروتهم اللغوية ، وتوسع آفاق معرفتهم في شتى الميادين ، فضلاً عما توفره لهم من تسلية ومؤانسة وترويح عن النفس وما تنمي لديهم من اتجاهات إيجابية نحو القراءة والاطلاع والألفة مع الكتاب وتغرس لديهم فوق هذا وذاك من قيم قومية وإنسانية رفيعة .
ومن أبرز قصص الأطفال قصص الخيال وهي تفسير بمنطق الإنسان لظواهر الحياة والطبيعة والكون والنظام الاجتماعي ، وقصص الخيال توحي بالامتداد عبر المكان وعبر الزمان … توحي بالعطاء الإنساني .. توحي بالحلم حين يمتزج بالحقيقة .. وبالخيال وهو يثري واقع الحياة بكل ما يطويه ليخلق منه دنيا جديدة … إنها تراث الإنسان حيثما كان وأينما كان .
في قصص الخيال تحكي البشرية أحلامها وآمالها ، وترسم دنياها المليئة بالتطلع إلى العلم والتواقة إلى المعرفة ، ومن هنا كانت هذه القصص منبع الإلهام الأدبي وفي النهاية دافعاً إلى علوم حديثة كثيرة كعلوم الفضاء والمعوماتية والسيكولوجية وغيرها .
من كان يتوقع في أوائل الخمسنات من القرن العشرين أن يهبط الإنسان على سطح القمر ويصبح السفر إلى الفضاء أمراً مألوفاً ؟ لعل من كان يتابع قصص الخيال العلمي ينظر إلى بعض ما حدث على أنه تحقق لنبوءات قرأ عنها في الماضي فبعض ما ترسمه قصص الخيال العلمي يصبح في وقت من الأوقات موضوعاً يبحثه الفيزيائيون ، ويحاولون إيجاد النظريات والمعادلات الرياضية الخاصة به .
ولقصص الخيال العلمي قواعدها الخاصة بها ، ولما كانت تعنى بتلمس آفاق جديدة للعلم فهي تعد بمثابة مرآة تعكس أحداث الإنجازات في هذا المجال ، بل إنها تستطيع في بعض الأحيان أن تزود العلم بأفكار يستثمرها ويحيلها إلى ابتكارات واكتشافات جديدة ، ذلك أن أدب الخيال العلمي لا يقتصر هدفه على تسلية القارىءأو الترويح عنه ، وإنما يتعداه إلى التبشير والتنبؤ بالتطورات العلمية والتقنية والدعوة إليها والحث على تحقيقها ، وأدب الخيال العلمي قديم قدم البشرية ، وهو يستقي مادته شأنه شأن الأساطير من حلم الإنسان بالسيطرة على الطبيعة ، ومن عملية ابتكار الأدوات والأساليب التقنية أياً كانت درجة بساطتها ، فيختلط الحلم بالعقل والخيال بالحساب الدقيق ، وليس من السهل دائماً التمييز بين هذا وذاك .
في قصة ” جسر القطب الشمالي ” التي نشرت في عام 1941 ذكر كاتبها ” الكسندر كازانتشيف ” النفق العائم وعلى الرغم من أنه لا يوجد في الوقت الحاضر نفق يمر عبر القطب الشمالي فإن المهندسين اليابانيين يحاولون بناء هذا النفق لربط جزيرتي ” هونشو ” و ” هوكايدو ” كما أن مشروع بناء نفق تحت مياه بحر المانش قد انتهى …
أما كاتب الخيال العلمي ” سيرانودو بير جراك ” فقد وضع تصميماً لمصابيح على شكل بالونات مضيئة تنبىء بظهور المصابيح الكهربائية بعد ذلك بزمن طويل … وكذلك وصف عميد أدب الخيال العلمي الأمريكي ” هونمو جيزنزياك ” في رواياته طريقة عمل جهاز تلفزيوني في وقت لم يكن فيه هذا الاختراع قد خطر على بال أحد بعد … ولكن هذا لا يعني أن كل تنبؤات الخيال العلمي قد تحققت ، أو إنها سوف تتحقق بالضرورة يوماً ما ، ولا ينبغي لنا أن نخلط بين هذه التنبؤات وبين التوقعات العلمية التي تستند إلى قوانين دقيقة كتوقعات ” مندليف ” 1970 – 1834 مثلاً بشأن وجود عناصر كيميائية مجهولة لم يتشكفها الإنسان بعد ، أو اكتشاف ” كلايد تومر ” لكوكب بلوتو عام 1930 الذي توقع وجوده وموقعه قبل ذلك بخمس عشرة سنة تقريباً عالم الفلك الأمريكي لوريل ( 1855 – 1916 ) .
لقد أثبت تاريخ التقدم التكنولوجي أن الخيال إذا ما دعمته المعارف العلمية لا يكف عن بذر بذور الأفكار الجديدة والتطورات البدعة ، واتضح من الدراسات أنه لصنع أية آية آلية يراد لها أن أن تلقي رواجاً تجارياً لا بد من أن يدرس مسبقاً ما بين خمسين وستين فكرة جديدة على أقل ، وذلك هو المجال الذي يستطيع فيه أدب الخيال العلمي أن ينهض بدور حاسم في الإبداع التكنولوجي … دور لا يتمثل في تقديم أفكار دقيقة أو حلول علمية يتمخض عنها خيال الكاتب بقدر ما يتمثل في حث الباحثين والمهندسين على إيجاد حلول جديدة بحق .
والفضاء الخارجي الذي كان مجالاً مفضلاً من مجالات نشاط الخيال العلمي تقام فيه اليوم معامل ومراكز أبحاث بل ورشات فنية ، ولم يعد رواد الفضاء شخصيات في قصص الخيال العلمي ، وإنما هم باحثون ومهندسون يعملون في مضمار تقنيات الفضاء الجديدة ، وكان أحد مدرسي الفيزياء قد طلب من تلامذته المبتدئين تصميم قاعدة فضائية ، فجاءت النتائج الأولية لهذه المحاولة في مجال الخيال العلمي مشجعة إلى درجة أن المدرس شرع في إجراء حسابات جدية بشأنها ، وترتب على ذلك أن علماء الفضاء يعرفون الآن الخبرة والدراية والمواد الخام اللازمة لبناء القاعدة الفضائية ، وربما يشكل نجاح الروس في بناء المحطات الفضائية وتوصل الأمريكيين إلى صنع مركبة الفضاء المكوكية الخطوة الأولى في اتجاه بناء أول قاعدة فضائية صورها الكاتب البريطاني ” آرثرسي كلارك ” في روايته ” موعد مع راما ” .
كذلك فإن كلمة ” روبوت ” التشكيلية ومعناها ” عمل صاغها الكاتب الروائي التشيكي كاريل ( 9381 – 0981 ) في إحدى رواياته التي نشرت عام 1921 ، وتقع أحداث الرواية في المستقبل على جزيرة يجري فيها إنتاج ” الروبوتات ” وبيعها كعمال أو خدم أو جنود ، ثم أطلقت اللفظة بعد ذلك على أي جهاز قادر على ممارسة قسط محدود من” التفكير ” ويستطيع أن يؤدي أعمالاً تكرارية بسيطة كان أداؤها وقفاً على الإنسان من قبل .
وفي البداية كانت طريقة تناول كتاب الخيال العلمي لموضوع ” الروبوتات ” تعكس قلق المجتمع ، إن لم يكن خوفه من التطورات التكنولوجية السريعة . فكثيراً ما كانت ” الروبوتات ” الأولى تصور على أنها مسوخ مروعة تنوزع إلى التمرد على مخترعيها ، وتعبث في الأرض فساداً وسفكاً للدماء ، غير أنه مع تعود المجتمع على التقدم التكنولوجي وألفته إياه بدأت ” الروبوتات ” تصور بمزيد من التفهم والتعاطف ، وقد تجلى هذا التحول في كتاب صاغه الكاتب الأمريكي ” اسحق عظيموف ” حيث حدد فيه القوانين التي تحكم على عمل ” الروبوت ” . أما في عالم الواقع فقد أصبحت ” الروبوتات ” على درجة من الدقة والتقيد لا يكاد يصدقها العقل ، وقد رفعت عن كاهل الإنسان عدداً كبيراً من الأعمال التكرارية الرتيبة أو التي تتسم بالخطر أو التلوث . وفي قصص الخيال العلمي الحديث يتيح موضوع ” الروبوتات ” للكتاب فرصة إمعان النظر في المحتويات العلمية والفلسفية والأخلاقية للذكاء الاصطناعي حتى أنه في أحد قصص الخيال العلمي ينهمك ” روبوتان ” تركا على الرف بعد توقفهما عن العمل في مناقشة فلسفية تنتهي بهما إلى أن اسم ” الإنسان ” ينطبق على ” الروبوت ” أكثر من انطباقه على الإنسان نفسه ! !
كذلك شكلت أشعة الليزر أحد الموضوعات المهمة في أدب الخيال العلمي ، وقد تنبأ بقدراتها أحد الكتاب السوفيات ، وأصبحت اليوم تستخدم في تقطيع الفولاذ وتلحيم السبائك الصلبة كما تستخدم في مجالات عدة في الطب والمواصلات السلكية واللاسلكية .
الطب هو الآخر لم يكن بعيداً عن الخيال العلمي فقد تحدث ” دي بيرجراك ” عن وجود الميكروبات في الدم وعن مقاومة الجسم المضادة لها ، وذلك قبل التوصل إلى إنتاج أول مجهر بعشرات السنين وقبل أكثر من قرنين من تحقيق كل من باستور ومتنيكوف ” تلك الاكتشافات التي نهض عليها علم الميكروبيولوجيا . وتدور قصة الكاتب السوفياتي ” ألكسندر بيليايف ” التي نشرت في العالم 1925 حول إمكانية زرع الأعضاء البشرية … وقد أصبحت عملية زرع الأعضاء أمراً مألوفاً يكاد يحدث كل يوم بعد أن وقف العالم مشدوهاً أمام عمليات زرع القلب التي أجراها الدكتور ” كرستيار برنارد ” إن المجال لا يتسع للحديث عن الأنواع العديدة من قصص الخيال العلمي والتي ساهمت في توسيع آفاق الأطفال وتنمية تفكيرهم ، وأدت إلى توجيه الأبحاث العلمية الوجهة الصحيحة .
وحسبنا أن نقول إن القصص العلمية هي تلك التي تروي للأطفال أخباراً واقعية وأخرى تخيلية بأسلوب جذاب عن حياة الحيوانات من بهائم وطيور وأسماك وعن عجائب البحر والجو والنبات وظواهر الطبيعة والرحلات الفضائية والتقدم التكنولوجي .
وإذا كان الطفل يتعلم القيم من البيت والمدرسة والأقران والمجتمع بوجه عام فإن أدب الأطفال وعلى رأسه القصة مصدرها هام من مصادر هذه القيم .
وفي الجملة يجد القائمون على تأليف قصص الأطفال وأدب الأطفال في الوطن العربي معيناً ثراً من القيم الإنسانية الكبرى في التراث العربي الإسلامي .
والحق نقول إن هذه القيم والمبادىء التراثية الرفيعة ينبغي أن تتكامل وتغتني ببعض القيم الإنسانية التي عرفتها العصور الحديثة والتي لا بد أن تحتل كانة هامة في تطوير واقع المجتمع العربي اليوم ، مثل روح المبادرة والخلق والابتكار والنظرة المستقبلية والإيمان بالعلم والإيمان بالتغيير والتطور وتجدد الحضارات والحوار بينها واحترام العلم والعلماء .
لقد أصبح من الواضح اليوم ضرورة ربط حركة الواقع بتطويرات العلم من جانب وتنبؤات الخيال العلمي من جانب آخر . فالاتقاء إلى مستوى مهام العلمي الحادي والعشرين وتحدياته يتطلب إسهام الفنون والعلوم على السوء ، ويعرض كتاب الخيال العلمي لدرسة عدد من مشكلات المستقبل مثل الاكتظاظ السكاني وذكاء العقول الإلكترونية والفناء النووي بدرجة من العمق ودقة التفاصيل تجعلها جديرة بثناء المتخصصين في إجراء البحوث المستقبلية وتكريمهم .
الخلاصة : إن الطفل يستطيع عبر تخيلاته القفز فوق حواجز الزمان والمكان وتجاوز حدود قواه الخاصة ومد يده بحيث تطور ما تعجز عن بلوغه في واقع الأشياء … كما يمكنه عن طريق التخيل أن يتجاوز مصاعب الحياة اليومية وأن يحقق مطامحه ، فيتذوق طعم الوفرة ، ويستضيء بنور الأمل ، ويطلق العنان لعقله لكي يعمل في هذه الحياة مبدياً القدرة على الاستعداد لاستيعاب كل ما هو جديد والتكيف معه والبحث الدائم والمسمر عن كل ما هو جديد ومفيد ، ويكون بذلك قد حقق نمواً شاملاً متكاملاً ومتوازناً ..