مقدمة
الإبداع شكل راق من أشكال النشاط الإنساني وقد أصبح أحد أهم ميادين البحث العلمي في العديد من الدول ، حتى أن دولة مثل فنزويلا ، قد أنشأت وزارة خاصة تهتم بالإبداع والمبدعين أسمتها ” وزارة الذكاء ” كل ذلك بعد أن تبين أن التقدم العلمي لا يمكن أن يتحقق دون تطوير القدرات المبدعة والخلاقة عند الإنسان .
كان لا بد من ازدياد الدراسات المتعلقة بالإبداع وتعقد له المؤتمرات والندوات وإعداد طراز من الباحثين الذين تكمن فيهم القدرة على الإبداع والابتكار والاختراع ، وقد ركزت البحوث المبكرة على الفرد المبدع ، بوصفه متفوقاً وذكياً ، وقد اهتمت البحوث والدراسات الحديثة بتكوين الإبداع وتربيته ، وتنميته . واهتم علماء النفس بدراسة الإبداع والمبدعين مع أن علم النفس ليس المؤهل الوحيد لدراسة الإبداع وتفسيره ، فهناك علم الاجتماع ، والتربية ، وتاريخ العلم ، والبيولوجيا .
وهكذا ، فالنتاج المبدع هو النتاج الجديد والأصيل والمفيد ، كالنصوص الأدبية بأجناسها المتعددة والأعمال الفنية التشكيلية ، لوحات منحوتات ، والمخترعات التقنية ، والأداء التمثيلي المسرحي .
* سيكولوجية الإبداع
ثمة مجموعة من الفرضيات حول طبيعة الإبداع والمبدعين توصل إليها علماء النفس ورجال التربية ، ومن جملتها :
– الإحساس بالمشكلات ، لأن قسماً كبيراً من نجاح المبدع يتوقف على طرحه الأسئلة ، وبالطبع طرح الأسئلة الصحيحة والمناسبة والإجابة عنها .
– ومن المحتمل جداً أن يكون هناك عامل طلاقة ، أو عوامل طلاقة ، في الموهبة الإبداعية ، ولا يعني هذا أن جميع المبدعين يجب أن يعملوا تحت ضغط الوقت ، ويجب أن ينتجوا بسرعة أو لا ينتجون أبداً . ولكن معناه أن الشخص القادر على إنتاج عدد كبير من الأفكار في وحدة زمنية ما ، فإنه إذ تساوت الاعتبارات الأخرى يكون صاحب حظ أكبر في إبداع أفكار ذات معنى .
– أن يملك الإنسان المبدع أفكاراً جديدة متجددة . إن درجة التجديد التي يكون الإنسان قادراً عليها أو التي أظهرها في المعتاد هامة في مسألة الإبداع .
– ثم إن مرونة نفس الفرد أو سهولة تغييره ، وتهيؤه النفسي عامل هام من عوامل الإبداع ، فالإنسان الذي يقف عند فكرة أو يتصلب إزاء طريقة ، أقل قدرة على الإبداع من إنسان مرن التفكير قادر على التغيير حين يلزم ذلك .
– يتطلب الكثير من أنواع التفكير المبدع تنظيم الأفكار في أنماط أوسع وأشمل .
– إن العمل الإبداعي الذي يريد أن يكون واقعياً أو مقبولاً ، يجب أن يتم تحت درجة من الضبط التقويمي . ولا شك في أن شدة الضبط والمنع مضرة بالإبداع ، ولكن اخيار الأفكار الصالحة للبقاء يحتاج شيء من التقويم .
وهذا التحديد للفعل المبدع ينجم عن أمران : أولهما أن الصفة الإبداعية يمكن أن تضفي على أي نوع من الفاعلية البشرية ، وهكذا فالناس يمكن أن يكونوا مبدعين لا في التمثيل أو نظم الشعر ، بل في النجارة وكرة القدم أو الغرام أو سواها .
وثانيهما أن العباقرة ليسوا وحدهم في القيام بالأعمال المبدعة ، بل أن هذه الصفة يمكن أن تتوفر في أفعال أقل أهمية وفي مستويات مختلفة من مستويات الكفاية والذكاء ، أما الإبداع الشخصي فيحكم عليه معايير مختلفة : أنه يمكن أن يحدث حين يمزج شخص بين أشياء بطرائق فردية خاصة به ، وحين لا يكتفي بمجرد التقليد بل يعيد تصنيف المؤثرات المعينة ، وتجميع المعلومات بواسطة أفكاره وأفعاله الخاصة به ، ويقطع النظر عن تأثير إبداعه على الآخرين .
وإذا ما اعتبرنا ” الدهشة الفعالة ” العلامة الفارقة للعمل المبدع ، فإننا نكون في الواقع قد جعلنا من حالة سيكولوجية معياراً للإبداع ، وفي الواقع فإن الأعمال الإبداعية تتصف دوماً بحالات من الارتياح ، والابتهاج والنشوة بالنسبة للمبدع ، بحيث أن الفعل الإبداعي يكون له نتائج نفسية بالنسبة للفاعل ، وبالنسبة للملاحظ في معظم الأحيان ، وبالرغم من أن هذه الحالة النفسية مشتقة من مشتقات الإبداع ، فإنها بالطبع ليست علامة مميزة قاصرة عليه .
تمثل العملية الابتكارية على أنها المسلك الذي يتخذه الفنان ، ليشكف عن علاقة فنية مجهولة ، أو علاقة جمالية غير مألوفة لتصبح ميسورة للتذوق ، واختلف بداية العملية الابتكارية عن نهايتها ، فقد يبدأ الفنان فيها بمدركات حسية ، لكنه ينتهي بأنظمة لها طابعها الكلي ، وليس لها مقابل في الطبيعة أو في البيئة .
إن العمل الفني المبتكر ذو أصالة وفرادة ، وجديد في نوعه ، وهذه الجدة تستند إلى هضم الماضي وإعادة تشكيله ، بما يتناسب مع الحاضر والمستقبل ، إن العصر الذي يعيش فيه الفنان يؤثر على ابتكاره كما أن شخصية الفنان ونوع طفولته لهما دورهما في تشكيل هذا الابتكار ، إن العملية الابتكارية في مجموعها ليس لها قواعد ثابتة ، فكل فنان مثل فريد رغم أنه قد يمر في حالة لها أسسها العامة التي يشترك فيها من غيره ، وهذه الأسس رحبة ومتنوعة وتأخذ شكلاً خاصاً مع كل فنان .
إن العملية الابتكارية هي محك العقل المفكر الحساس ، الذي وصل إلى مستوى رفيع النضج ، ولا بد لكل معلم أياً كانت مادته ، أن يفهمها ويحسها ، بل عليه أن يمارسها . والممارسة هي التي تكسبه القيم الحقيقية والمعاني الأصلية إن المعلم الفنان الذي يمارس عملية الابتكار ، يستطيع أن يوجهها عند تلاميذه ، ويمكنه أن يتذوق إنتاجهم إذا كان مبتكراً ويعرف الطريق لتنميته وتطويره . أما المعلم غير الفنان الذي يتلقف معلوماته من هنا وهناك دون أن يكون له عقلية مبتكرة ، فإنه لا يقدر على إرشاد تلاميذه إرشاداً موفقاً ، بل إن وجوده بهذا النقص يعرقل نموهم الفني ، وينتكس بقدراتهم الخلاقة ، ويفرض عليهم مستويات غير أصلية تعوقهم عن الابتكار ، كما تؤخرهم في تذوقهم .
إن العملية الإبداعية في الفنون عملية طويلة وشاقة ، إن تحقيق الفكرة الأصلية وتجسيد الإلهام يتطلب جهداً إبداعياً طويل الأمد ومن نوع راق ، ذلك بأن التعبير المفصل جزء أساسي وصعب المحاولة الإبداعية ، أما في العلوم فإن ما يتلو لحظة التبصر يبدو عملية تافهة . إنه مسألة تحقيق ، إن مسألة تحقيق وصياغة ، وقد يكون هذا العمل طويلاً ومملاً ، ولكنه قد يكون سريعاً وروتينياً . ففي حالة ( اينشتاين ) مثلاً ، كانت البديهيات التي صاغ فيها نظريته عن النسبية أمور صياغة فقط ، ولك بعد أن تم الاكتشاف الأساسي .
معظم العباقرة المسؤولون عن التعبيرات الحادثة في تاريخ الفكر ، يبدون وكأنهم يشتركون في بعض السمات ، ومنها الشك الذي قد يصل أحياناً حد تحطيم المعتقدات ، ومواقفهم من الأفكار التقليدية والعقائد المقبولة وكل شيء مما يعتبر أمراً نهائياً .
ومن جهة أخرى فهم مفتوحو النفس لدرجة تصل حد السذاجة ، وذلك بالنسية للأفكار والمفاهيم الجديدة ، التي تبدو مبشرة فيما يخص تلمسهم لطريقهم ، وينتج من هذا المزيج تلك الكفاية الحاسمة في إدراك الشيء المألوف والوضع المادي والمشكلة البسيطة ، ومجموعة الحقائق الأليفة تحت ضوء جديد مفاجىء أو في سياق جديد . إنهم يرون الغصن لا على أنه جزء من شجرة ، وإنما بوصفه سلاحاً أو أداة ممكنة . وهم لا يربطون بين سقوط التفاحة من الشجرة وبين نضوجها ، ولكن بينها وبين حركة القمر ، إن المكتشف يدرك أنماطاً من العلاقات الوظيفية المتماثلة ، حيث لا يرى ذلك أحد سواه أو من قبله ، حتى أن الشاعر يرى في صورة جمل في سحابة راكضة .
إن العديد من الباحثين عنوا بدراسة الخلفية الأسرية في الإبداع وقد وجدوا أن الأفراد المبدعين ميالون لأن يكون لهم آباء أو أقرباء قدموا لهم أمثلة يحتذونها ، وإلهامات وقاسموهم مجالات اهتمامهم . ومن أبرز الأمور الملحوظة كون والدي الأطفال المبدعين ، يظهرون احتراماً تاماً لهؤلاء الأطفال كأفراد كونهم يثقون ثقة تامة بقدرتهم على القيام بالأعمال الصحيحة ، وهم لهذا يعطونهم استقلالاً وحرية في استكشاف العالم من حولهم ، ويشجعونهم على فاعليات مستقلة وناضجة ، وبكلمات أخرى فإن الوالدين يظهرون تسامحاً كبيراً ويميلون إلى القليل من الضبط والمراقبة . وما من شك في أن هذا كله يساهم في استقلالهم وتحررهم العقلي فيما بعد .
ونحن حين نتكلم عن تحرر الأطفال واستقلالهم في هذه الأسر ، يجب أن لا نظن أن ذلك يعني التسامح المطلق وانعدم الاضباط ، ولذلك فإن علينا أن لا نتصور أن الإبداع يقتضي التحلل الكامل من القيود والاستمتاع غير المنضبط بالطفولة .
والخلاصة : ما هي الصورة العامة لأسر أولئك الذين يكونون مبدعين أو على الأقل يتمتعون بمواهب مفرقة ؟ يبدو أن هذه الأسر تنتمي إلى الطبقة المتوسطة ، ويكون الأب متمتعاً باستقلال ذي بال في مهنته وعمله . وهكذا فإن الأب يقدم مثلاً على الاستقلال ومن ثم فإن الأهل يمنحون طفلهم قدراً معقولاً من الاستقلال ، ثم أن الوالدين يكونان متحمسين للفاعليات المبدعة ، ويحاولان تشجيع فضول الولد وميله إلى البحث ويثيرانه من أجل الإنجاز المستقل . ومع ذلك فإن الوالدين لا يضغطان على الطفل بل يسمحان له بالنمو والتكون بمعدله الخاص ، وفي الاتجاه الذي يرغب فيه ، وغالباً ما يكون الوالدان متسامحين . هذا وتكون العلاقات في الأسرة دافئة ، وليس من الضروري أن تكون العائلة منسجمة كل الانسجام .
إن التعبير الصريح عن المشاعر بل وشيء من الخلاف ، أمران سويان وهما جزء من حياة الأسرة .هذا ويجب أن لا يغيب عن البال أن الأسرة ، لا تستطيع أن تعمل إلا ضمن حدود الحضارة التي تجد نفسها ضمنها ، وأن الفرد يتأثر تأثراً عميقاً باحتكاكه بالآخرين ، وبالمحيط الواسع الذي يحيط به وتأثيره بأسرته . ” إن المدى الذي يصل إليه ازدهارالنتاجات المبدعة ، يتوقف على المدى الذي يصل إليه ازدهار النتاجات المبدعة ، يتوقف على المدى الذي تسمح به التأثيرات الحضارية ، فيما يخص الحرية بين الفرد ، بل يتوقف على المدى الذي تشجع إليه الاختلاف والتنويه ، وتتسامح بالغموض الظاهر الذي يوحي به مثل هذا التنوع .
سيكولوجية الطفل المبدع
يتمتع الأطفال الموهوبون في معظمهم بالقوة والصحة ، والتوافق الاجتماعي الجيد ، ويكونون مفعومين بروح الصداقة ، وبالسرعة في الفهم واليقظة وهم في الظروف العادية يميلون إلى أن يكونوا :
– محبين للإطلاع في عمق واتساع ، كما يظهر ذلك في أسئلتهم العميقة
– يبدون اهتماماً بالكلمات والأفكار ، ويبرهنون على ذلك باستخدامهم للقواميس ودوائر المعارف ، وغير ذلك من كتب تعليمية أخرى .
– يتسم الأطفال الموهوبون بخصوبة في حصيلتهم اللغوية ، وبخاصة في تلك الكلمات التي تتسم بالأصالة الفكرية والتعبير الأصيل .
– يستمتعون بالقراءة ، وتكون قراءتهم على مستوى ناضج في العادة .
– يقرأ الأطفال الموهوبون بسرعة ، ويحتفظون في ذاكرتهم بما يصلون إليه من معرفة .
– يميل الأطفال الموهوبون إلى مخالطة زملائهم من الكبار ، ويجدون المتعة في مجالستهم .
– لديهم روح المرح والبهجة ، ولديهم رغبة قوية في التفوق على الآخرين .
– يفهم الأطفال الموهوبون بسرعة ، وينفذون التعليمات بسهولة .
– لديهم القدرة على التعميم ، وعلى الموقف على العلاقات ، وإلى إنشاء ارتباطات منطقية دقيقة .
– لديهم اهتمام شديد بالطبيعة والفلك . وبطبيعة الإنسان وعالمه .
– يحبون البحث وإنشاء القوائم والتصنيف ، وجمع المعلومات والاحتفاظ بالسجلات .
– يبدون أصالة في تفكيرهم ولديهم خيال خصب ، وذاكرة حادة . والقدرة على التذكر ، ودقة الملاحظة ، والقدرة على التفكير المنظم ، وارتفاع مستوى التحصيل ، والتفوق في العلوم والآداب والفنون والمنطق .
– إنهم يتميزون بالثبات الانفعالي ، والثقة بالنفس والمثابرة ، وروح الفكاهة والتفاؤل ، والتعاطف والشعبية والقيادية ، والاتجاهات الخلقية والاجتماعية .
– وتوصلت بعض الدراسات إلى أنهم يمتازون بالاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي ، والخلو من الأعراض العصابية ، وأن لديهم القدرة على توجيه السلوك تجاه المواقف الجديدة ، وأنهم أفضل في القدرة على ضبط النفس ، والتعاون والانتماء وتحمل المسؤولية وعدم الانطواء .
– وأن من الدوافع المتاحة لديهم الاستكشاف والاستطلاع والتعلم والتعرف والتقصي ، وتوجيه الأسئلة وطلب الإجابة عنها . فضلاً عن تمييزهم في الدوافع إلى الإنجاز ، وتحقق الذات ، لما يتميزون به من قدرة على التحمل والتصميم والمثابرة وارتفاع مستوى الطموح .
– حب الاجتماع والتعاون مع الآخرين ، وحب الخدمات والمعاونات الاجتماعية ، ويبدو أن الموهوبين أكثر ميلاً إلى اللون الثاني ، وقد تأخذ الميول الاجتماعية لديهم صورة البحث والاختراع في سبيل تحقيق تقدم الجماعة ، والاهتمام بالثقافة الاجتماعية ، ونحو ذلك من الاهتمامات ، التي ترتبط بالقدرة على اجتذاب الآخرين أو التأثير فيهم .
– يشعر بالحرية ويعشقها ، ويقاوم الضغوط الاجتماعية ،وتدخل الآخرين في شؤونه ، ويطمح للوظائف العالية ، ويعتز بنفسه ويثق بها ، وعنده حيوية واعتداد كبير بالنفس ، ويحب السيطرة والاستقلالية .
– يملك القدرة على نقد ذاته والإحساس بعيوبه ويتقبل الاقتراحات ، والنقد من الآخرين دون أن يثبط عزيمته ، كما يتحمل المسؤولية ويملك القدرة على قيادة الآخرين ، ولديه رغبة قوية في التفوق العقلي عليهم .
– يفضل الألعاب المعقدة والأنشطة التي تحتاج إلى التحدي وإعمال الفكر .
– يميل إلى المرح والبهجة وروح الدعابة ، وذو حس جيد بالنكتة ، ولا يكترث بالنشاطات الاجتماعية ، التي من شأنها أن تضع عليه قيوداً معينة .
– يبادر إلى اقتراح حلول للمواقف المشكلة ، وقد يتسم سلوكه في بعض الأحيان بالتحدي وعدم الخضوع للأوامر . ولا يسعى إلى مراكز السلطة والنفوذ ولا يميل إلى التباهي واستعراض المعلومات والمفاخرة بنفسه .
– يتحلى بدرجة عالية من الاتزان الانفعالي ، ولا يضطرب أمام المشكلة التي تواجهه إذا غضب .
– سريع الرضا إذا غضب ولا يميل إلى التحامل والتعصب ، سريع الغضب وعنيد ، إذ لا يتخلى عن رأيه بسهولة ، إرادته قوية ولا يحبط بسهولة ، ولديه القدرة على الصبر والتسامح .
– يحب الجري ، ويمشي بسرعة ، ويتحمل المشاق . ينام لفترة قصيرة ، ولديه طاقة زائدة باستمرار ، ويتمتع بقسط وافر من الحيوية والنشاط ، بالإضافة إلى الاستمرار في النمو ، والإصرار على إنهائها .
– يتصف الموهوبون بالطلاقة في الجوانب اللغوية في الجمل والأفكار ، ومرونة الأفكار وتنوعها والإتيان بأفكار غير عادية ، وبدائل وحلول كثيرة ومتعددة للمشاكل ، بالإضافة إلى إعطاء تفاصيل مناسبة للموضوعات .
مشكلات الأطفال المبدعين
إن الأطفال المبدعين أحياناً يواجهون مشكلات خاصة بهم ، واستجابة بعض الأنداد والكبار السيئة نحو تفوق الأطفال الموهوبين مثال ذلك ، كما أن ما يعانيه بعض الأطفال الموهوبون من حرمان بسبب التباين بين مستواهم العقلي المتقدم ، والبطء في سرعة نضجهم الجسمي أو الإجتماعي أو الانفعالي مصدر آخر لاضطرابهم . كما أن المنهج الذي يفشل في مواجهة القدرات المتفوقة أو ينمي الميول الفردية مصدر آخر للمشكلات .
وهذه العوامل وغيرها كثيراً ما تعوق التكيف السوي للطفل الموهوب ، وفي بعض الحالات تقف حائلاً دون الإبداع والابتكار ، ومما يساعد الطفل على أن ينمو من جميع نواحيه وأن يبتكر إلى أقصى حد ، وتوجيهه ليفهم أوجه أسباب الصراع والحرمان التي يعانيها ، ويجب على الكبار الذين يقومون بالتوجيه أن يكونوا على وعي بالمشكلات التي تنشأ في المنزل والجيرة . ويجب عليهم أن يفهموا الأطفال الموهوبون فهماً قائماً على المشاركة ، ويرشدهم إرشاداً قائماً على التفكير ، كما يعملون ويلعبون معهم ، وأن يتذكروا أن حاجات الطفل الموهوب الأساسية والتي من خصائص الطفل السوي قبل كل شيء ، لا تؤدي أحياناً إلى إشباع الطفل الموهوب إشباعاً سوياً .
ومن مظاهر ومشكلات عدم تكيف الأطفال الموهوبين ، يمكن تحديدها فيما يلي :
– استياء تلاميذ الفصل من تفوق الطفل الموهوب في الأعمال المدرسية ، ومدح الكبار مما يؤدي إلى هذا الاستياء .
– اهتمام المدرس بالتحصيل الأكاديمي وإثابة التلميذ عليه ، وفشله في التعرف على قيمة المهارة في أوجه النشاط .
– ضعف حساسية المدرس لاستجابة الأطفال نحو إنتاج الطفل الموهوب ، وفشله في تفهم التباين في قدرات المجموعة ، وضغط الوالدين واستعجالهم الطفل ، ودفعه على النمو والأداء .
– المنهج الذي لا يثير حب استطلاع الطفل الفعلي ، ويتحدى قدراته أو يتيح له الفرصة للتعبير عن ذاته ، وينمي ميوله الخاصة . وقد يوجد في البيئة أسباب أخرى تؤدي إلى حدوث الصراع والشعور بالحرمان مثل :
– إنكار الآباء والأتراب لقدرات الطفل الموهوب الخاصة ، والتقليل من شأنها .
– عدم اكتراث الولدين بمواهب الطفل ، وعدم وجود ما يثيرها في المنزل .
– الاختلاف العقلي بين الطفل وعائلته ، مما يحرمه من الخبرات العديدة التي تسود محيط العائلة ، التي تقوم على أساس الميول والمشاعر المشتركة والتي تجعله يحس بعدم الانسجام مع الآخرين .
– صعوبة المعايير التي يضعها المنزل والمدرسة ، قبل تكشف قدرات الطفل .
– استغلال المنزل والمدرسة والمجتمع لمواهب الطفل بالمسابقات والمكافأة والبرامج والإذاعات وأساليب المناقشة المتعددة . وتختلف الاستجابات السلوكية للأطفال الموهوبين نحو العوامل البيئية ، على النحو التالي :
– تقبل عمل المدرسة ، الذي لا يبعث على النشاط بوداعة .
– التمرد على عمل المدرسة والسلطات المدرسية .
– الغرور والاختيال والتعصب ضد الزملاء الضعاف في تحصيلهم المدرسي .
– وغالباً ما يعتري الطفل الموهوب إحساس بالوحدة بسبب الاختلاف بين ميوله وميول أترابه ، وأوجه نشاطه ونشاطهم ، وكلما اتسعت الهوة ازدادت وحدته . فالطفل الذكي هو الذي يعاني من الوحدة غالباً . وغالباً ما ينتاب الطفل الموهوب إحساس بالنقص ، فلا يمكنه من مشاركة زملائه في اللعب ، إما لأنه أكثر ميلاً لأوجه النشاط العقلية لعدم اكتسابه المهارة التي يتطلبها اللعب ، و لأن رفقاءه أكثر نضجاً منه في الناحية الجسمية والتوافق الحركي ، وذلك في حالة ما إذا اختار أن يكون مع أطفال كبار أو إذا ضمته المدرسة إلى من هو أكبر منه .
ومن الناحية الاجتماعية ، فإن ميوله لا تشبه ميولهم إذا كانوا أكبر منه . كما لا يسنجم مع أطفال من عمره إذا لم يكن عنده خبرات الأطفال العاديين الاجتماعية ، كما أن ما يتوقعه الكبار من نضج وأداء زيادة عن تحصيله يسبب له أيضاً إحساساً بالنقص .
والإحساس الآخر الذي يحسه الطفل الموهوب بدرجة كبيرة ، ينشأ عن نظرته لمعنى العالم ونصيبه فيه ، فمنذ الطفولة المبكرة وأثناء المراهقة تصبح الموضوعات مصدر إجهاد ملحوظ ، غالباً ما يكون نضجه الانفعالي أقل من نضجه العقلي ، الذي يثير اهتمامه بما يتعلق بأصل الإنسان وخلوده ، ولا يمكنه أن يتغلب على اضطرابه بدون التوجيه المبني على البصيرة وفهم الكبار له .
وللحفاظ على الصحة النفسية للطفل الموهوب ، هناك أهداف يجب تحقيقها ، فالطفل الموهوب يجب أن يكون على وعي بتفوقه في بعض أوجه النشاط سواء في داخل المدرسة أو خارجها ، وليس هناك من مبرر يدعو إلى المدارة أو إخفاء الحقيقة ومن الأهمية بمكان أن يقف الطفل على حقيقة موهبته ، ويتحقق مما يفرض عليه ، ويجب أن نعاونه ليعرف مسؤولياته لينمي مواهبه لمصلحة البشرية وسعادته أيضاً. ووضع أهداف يمكن تحقيقها إذا ساعده المجتمع على استخدام استعداده الطبيعي ، في نقد نفسه ، وفي المدرسة توضح تلك الأهداف مستويات التحصيل ونوع الأداء ، الذي يتناسب مع قدرة الطفل ، ويجب معاونة الطفل الموهوب ليعمل إلى أقصى حدود إمكانيته في كل النواحي ، ويجب أن يوجه ليعتنق هذه المعايير ، كأنها أهدافه الوظيفية .
وهنا يحسن أن ننهي المناقشة بمراجعة بعض الأجزاء البنائية ، التي تستخدم في تناول المشكلات الخاصة بالطفل الموهوب . ويلاحظ أن الأسرة والمدرسة والمجتمع مسؤولة جميعاً عن تجنب هذه المشكلات ” .
– التوجه نحو طفولة عادية من الخبرات في كل الميادين : الجسمية والاجتماعية والعقلية والإنفعالية ، والتي تؤدي إلى نمو عادي يناسب سن الطفل ، ويجب مد الطفل بمواد منوعة ليظهر ويكشف عن قدراته وميوه ، وينميها إلى أقصى حدود إمكانيته ، ويجب أن تتحدى مستوى ميله وقدراته الخاصة ، وتثير حب استطلاعه العقلي .
– مطالبة الطفل بأداء يتناسب مع قدراته ونضجه ، مع تجنب ما نتوقع أن يولد ضغطاً لا مبرر عليه .
– توجه الطفل في إنماء المهارات ، التي تحتاجها قدرته الخاصة مثل دراسة المهارات ، وعادات العمل ، والمهارات الجسمية والاجتماعية ، واستخدام المواد التي تعبر عن الابتكار .
– تشجيع الطفل على التفكير الناقد ، والابتكار في تناول الأفكار والتعبير الإبداعي .
– تكوين اتجاه مقبول ومفهوم نحو تفوق الطفل ، والوعي بخطر الحد من موهبته أو استغلالها ، وبخطر الإفراط في المدح والتشجيع على التحصيل ، وتجنب الإفراط في تأكيد النجاح مما يبعث على الغرور .
– توجيه الطفل بحيث يتمكن من استخدام قدراته الخاصة في تحليل ومواجهة مشكلاته الإجتماعية والانفعالية وتحقيق نموه من جميع نواحيه وإدراك قيمة نمو إمكانياته نمواً تاماً لسعادته ولمصلحة المجتمع ، وتنمية اتجاه صحيح نحو مواهب الآخرين وميولهم ، التي تختلف عن قدراته وميوله .
· سيكولوجية الإبداع للطفل
هل من المنطق أن نكتب لأطفال القرن العشرين أو الواحد والعشرين ، باللغة والمنهجية والأسلوب والإيحاء والأجواء نفسها ، التي كنا نكتبها لأطفال القرن العاشر ؟
ألا يجدر بنا أن نفرق بين أطفال الأمس وأطفال اليوم ؟ ونعي حقيقة أن ما كان يصلح لأطفال الخمسينات والستينات ، لا يمكن بأي حال أن يصلح الأطفال التسعينات . والأدلة والقرائن على ذلك كثيرة ، هل يصح في عصرنا الحالي ، عصر العلم والتكنولوجيا ، أن نتحدث للأطفال عن الساحر وعصاه السحرية ؟ وعن الفلاح الذي أصبح بين ليلة وضحاها أغنى رجل في المدينة ؟
وإن ما يهمنا هو أن نخلق من الطفل عبر الكتابة وأساليبها ومفاهيمها ، عنصراً مبدعاً خلاقاً ، وطاقة جديدة مضافة إلى الطاقات المبدعة المتواصلة ، في الحياة والإنسانية بعناصر رقيها وديمومتها ، وفق التطور العلمي والفكري والتقني ، والمنطق إلى المستقبل ، وحركته الصاخبة والمتواصلة إلى المستقبل وحركته الصاخبة ، والمتواصلة ، مع جذور الإرث الإنساني الكبير ، الذي يعد مرتكز الانطلاق الصحيح ، إذ لا يمكن أن نظل نكتب للطفل ، عن عوالم وكائنات ومواقف وظواهر وأساطير لا وجد لها في ذهنه وخياله ولا أرضية واقعه ، أو صوة عقلية في مخيلته ، هل يصح أن نكتب عن ذلك ، وطفلنا الآن يرى ويسمع ويقرأ عن عجائب التكنولوجيا ونتائجها المذهلة ، في الكومبيوتر والسيدي والحاسوب والمركبات الفضائية ، وغيرها من تقنيات العلم المتطورة .
وبما أننا نعيش عصر العلم وتطوراته المذهلة ، لزاما علينا أن نساير ذلك في ما نكتب للأطفال ، بوعي ودقة ، وأن تتحول أساليبنا ومنهجيتنا ومفاهيمنا في مخاطبة الطفل إلى أساليب ومنهجة ومفاهيم علمية ، تحدث التوافق الموضوعي بينهما ، وبين العلم من جهة وبينها وبين الطفل من جهة أخرى .
ذلك أن موضوع إبداع الأطفال ، هذا الفن الأدبي الجميل ، والمؤشر التربوي المهم ، الذي رافق بشكل أو بآخر مراحل نمو الطفل العقلي والحسي والمعرفي والثقافي وأسهم كثيراً بمده حسب قدرته وفاعليته بعناصر القوة الثقافية والتربوية ، وأسهم بشكل فاعل في تنمية خيال الطفل ومدركاته ، حتى عده علماء التربية والنفس حقلاً مهماً من حقول التربية والتعليم ، وأصبح له ما للحقول التربوية والتعليمية والتثقيفية والإعلامية الأخرى ، من الفاعلية والقدرة على تربية الطفل وتأديبه .
وعلى هذا الأساس ، لا بد أن نشغل إبداع الطفل في خطابه الجديد للطفل بالتفكير العلمي ، الذي يجعله صادقاً مؤثراً وفاعلاً في رسالته ، مع أهدافه ومع مراحل نمو الطفل : إذ تعد مرحلة الطفولة المبكرة من أعقد وأدق المراحل العمرية للطفل ، على شتى المستويات والحالات : خاصة الفسيولوجية والسيكولوجية ، وما يتصل بهما من المكونات والمنشطات والموجهات التربوية والثقافية والصحية والنفسية ، التي تربى وترعى وتبرمج أنظمة النمو والبناء الجسماني والسلوكي والحركي والعقلي والإدراكي للطفل في خطواته الأولى التي غالباً ما تفرز ضمن محيطها العام ومدار حركتها ، أنماطاً سلوكية وحركية غير منتظمة ، ليس من اليسير تحديدها وتشخيص دوافعها ، والنجاح بإخضاعها بسهولة ، لأنماطنا التربوية والتعليمية التقليدية ، وتتميز هذه المرحلة بالقدرة على الابتكار ، ويساعد اكتساب اللغة كثيراً من الأطفال على محاولة كتابة الشعر والقصص ، كما تظهر مواهب بعض الأطفال في الرسم والنحت والتمثيل وغيرها من الفنون ، ويساعدهم على ذلك صبرهم وقدرتهم على بذل النشاط .
وتبدأ الاتجاهات الاجتماعية تظهر في هذه المرحلة ، كالزعامة والميل للمساعدة أو الميل الاستبدادي أو حب التهكم وغير ذلك . ومن الملامح الأساسية للنمو الاجتماعي في هذه المرحلة ، هو موقف الطفل من الثقافة المحيطة به ، المتمثلة في العادات والتقاليد وآداب التعامل في مجال الأسرة ، فالطفل يحاول أن يفهم هذه العادات وتلك الآداب ، وأن يلتزم بها بل ويفتخر على زملائه ممن لا يستطيع ذلك ، إن شعور الطفل بفرديته وذاتيته يجعله يدرك السمة ، التي يتصف بها وتميزه عن الآخرين ، ولذا فهو يستطيع أن يقارن بين الأفراد ، ليس بناء على صفاتهم الجسدية فحسب ، ولكن على أساس سماتهم النفسية وصفاتهم الخلقية وعاداتهم السلوكية والحركية .
يعتبر الفن بالنسبة للطفل وسيلة يعبر فيها الطفل عن أفكاره ومشاعره وعواطفه ، وهو المنفذ لمخيلته الحية ، وهو أحد أشكال النشاط العقلي . وقد عمد علماء النفس والمربون منذ مدة طويلة إلى تقدير الأهمية العظيمة للفن بالنسبة للطفل ، فوجدوا أن الفن نشاط تلقائي يجد الطفل راحته العقلية النفسية فيه ، ويستطيع الطفل عن طريقه أن يعبر عن رغباته ومخاوفه وأخيلته .
ويتفق علماء النفس على أن الفن يساهم في نشاط الطفل العقلي والمعرفي ، وفي الوظائف العقلية العليا للإدراك ، وهو تعبير عن حياته الانفعالية . ولا تقف أهمية دور الفن عند هذه الجوانب النفسية والعقلية في شخصية الطفل فحسب ، بل تتعداه إلى الجانب الاجتماعي ، إذ يؤدي الفن دوراً بناء في نضج الطفل إجتماعياً ، يربط إدراكه بالمجتمع المحيط به ، إذ يمكنه العمل بانسجام وتعاون مع زملائه بالعمل الجماعي .
وينمو في الطفل مع نمو الطفل تلقائياً ، مثلما تنمو لغة الكلام عنده ، ويعتمد ذلك اعتماداً كلياً على البيت الذي ينمو فيه ويترعرع ، على ثقافة والديه وفهمهما وتذوقهما لفنه ، وإن عدم فهم الوالدين لفن طفلهما وكبت رغباته الفنية ، علماً أنها عنصر هام يبعث على الارتياح والاكتشاف ، والوالدان هما اللذان يهيئان للطفل الجو الفني ، الذي يساعده علىالتعبير الفني ومده بالمستلزمات الضرورية وينشأ القلق والتوتر نتيجة حرمان الطفل من رغباته وعدم الاهتمام بنشاطه ، وكلما استطاع الآباء أن يفسحوا المجال للطفل من استخدام خياله في التعبير ، وتنمية هذا الخيال بعلاقاته الحساسة ، يكونون بذلك قد حققوا له إحدى حاجاته الأساسية ، فهناك أطفال في حاجة إلى مثيرات فنية مستمرة ، فإذا لم يحصلوا عليها فإن حياتهم تصبح مملة ، لا يشعرون فيها بالسعادة ، ولعل هروبهم من عدم قدرتهم على التصرف مع أنفسهم ومع خيالهم ومع عالمهم ، يبدو في البحث المستمر عن مثيرات جديدة ، وإن بعض الآباء غير المزودين بالثقافة الفنية يشجعون ذلك الهروب ، بالضغط عليه وإجباره على عمل من عالم الكبار وليس من عالمه الخاص ، وكان هذا سببا من أسباب الهروب ، وكلما أسرع الآباء في مساعدة الطفل على تحقيق ما يريد أن يعبر عنه في فنه دون تدخلهم ، فإن ذلك يشجعه على الاكتشاف ، ويهتم والديه اهتماماً متزايداً ويشعرون بالقلق إذا ما أصيب أبنهم بأمراض جسمية ، متجاهلين أن هناك أمراضاً أخرى تكون أكثر خطورة من تلك الأمراض . التي تتعلق بوضعه النفسي والعاطفي والعقلي ، التي تنشأ نتيجة إهمال حاجات الطفل الأساسية ، وليس للوالدين الحق في حرمان ولدهم من نشاطه البناء ومنعه من ممارسته .
سيكولوجية التذوق عند الطفل
لذلك يجب أن نغفل في مواجهاتنا الأولى للطفل نسيج الجمال في اللغة والصورة ، هذا النسيج الذي يسحره الخيال الممتع ويغذيه بالمتعة ، والذي غالباً كان يؤسس لعلاقة وطيدة بين خيال الطفل وخيال الكاتب وله القدرة بنسب متقدمة على التفاعل مع الطفل ونسيح الخيال هنا ، نقصد به ” إبداع الطفل : الذي يوفر سياقاً إجتماعياً يراعي سمات الإبداع ، وينميها خلال عملية التفاعل والتمثل والامتصاص ، من حيث استثارة المواهب ، ومحاولة تنمية هذه المواهب ، عن طريق تحقيق جو من التسامح والدفء العاطفي والحب والديمقراطية ، إنه يمثل ثقافة جزئية مؤثرة على الطفل في المرحلة العمرية ، التي ينمو فيها معرفياً ووجدانياً ومهارياً ، كما أنه يمثل جانباً مهما من جوانب التربية في حياته ، بل وربما هو التربية غير النظامية التي تؤثر فيه ، وبالتالي فإن دور إبداع الطفل في تنمية الإبداع والتأثير إيجابياً أو سلبياً ، في القدرات الإبداعية هو دور أساسي وجوهري .
ومن هنا ، فإن الخيال بالنسبة للطفل ضرورة نفسية وفكرية ، لأنه بمنزلة المنظار الذي يرى من خلاله العالم المحيط به ويفسر الظواهر ويقربها إلى وعيه ، إنه الوسيط المقنع الذي يرمم الفجوة بين مدركات الطفل وخبراته المحدودة ، وبين ظواهر العالم المعقدة التي يبدأ بملاحظتها منذ أن ينضج وعيه على العالم من حوله ، وحتى ينضج تفكيره ليواجه الحياة بحقائقها الواضحة الصريحة ، وعندما يصل الإنسان إلى النضج المطلوب يبدأ باستعمال الخيال كمسير يلتمس من خلاله طريق المستقبل ويرسم به صورة لعالم أفضل .
إذن الخيال واستعمالاته الأدبية كان وراء التفوق في الموجهات التربوية ، وذلك لما يقوم به إبداع الأطفال من قدرة وفاعلية على تطوير وتحفيز خيال الطفل ، ونمو مكوناته اللغوية والصورية ، وإغنائها بالخبرة والتجارة والنشاط الملحوظ ، وأساسيات المنطق التعبيري لدى الطفل ، وعلاقاته مع الأشياء والمكونات التي تشكل فضاء تخيله ومساحة عوالمه ، ودائرة حركته في مجاليها القريب والبعيد .
إن إطلاق الخيال في شخصية الطفل يعني التحرر من قمع الواقع الرتيب ، وسيطرة الآخرين عليه من دون وعي بأهميته وأهمية خياله ، الذي يعد أدب الأطفال قوته وسعته ، التي تنمي آفاقه وتنظم صوره ومكوناته في شخصية الطفل ، من خلال موجهاته الأدبية ، المنطلقة من الأحاسيس المتدفقة بروح الخيال وعناصرها الجميلة في النتاج الأدبي ، الذي يصوغه ويبدعه أدب الطفل بكل أشكاله وأنواعه .
وعندما تتجسد عناصر الخيال وصوره الجميلة المعبرة ، بإطار تربوي وأدبي مدعم بالرسوم التعبيرية الملونة في روح القطعة الأدبية ، وبأسلوب لغوي ساحر وميسر آخذ في الاعتبار قدرات الطفل وفهمه مستعملاً كل ذلك بطريقة تعبيرية أخاذة ، تصل في جمالها إلى حد التحليق في خيال الطفل ، عند ذلك ستنجح هذه القطعة بالوصول والتأثير في الطفل ، لتصبح جزءاً من معارفه ومكونات خياله ، ومصدرا مهما في إغناء ونمو ثقافته وأفكاره ومدركاته ورصيده اللغوي ، حتى يجد في تلك القطعة الأدبية عالمه الرحيب وهكذا يلعب أدب الأطفال دوره الكبير في تحفيز الطفل وإغناء مخيلته وقدرته ووجدانه ومشاعره ونمو خياله بالتمثيل التلقائي وبناء ذاته وشخصيته .
ونعني بالتمثيل التلقائي تلك الخبرات الرمزية التي يستحضرها الطفل في لعبه التوهمي ، ليتذوقها ويحلها إلى تمثيل مرتجل ، دون التزام بنص سابق ، ودون أن يوجه الخطاب إلى جمهور محدد . من هنا تتأكد الدلالة التنبؤية لهذه اللغة التوهمية الذي يؤديها الطفل أو يشاهدها ، وتزداد بازدياد ما تنطوي عليه من إغراب يثير فضوله المعرفي وينشط قدراته العقلية ، وتنمي لديه جوانب التفرد في انفعالاته ، وتكسبه الحس الدرامي ، وتهيىء له حصيلة من الخبرات الهاربة ، فتشبع حاجاته التخيلية ، وتساعده على تصريف طاقته الزائدة ، وتعوده تذوق الخبرات الرمزية والتعبير عنها ، وبهذه الدراما التلقائية تستثير فيه روح الإبداع ، وتخلصه من رتابة المألوف ، وتكسبه الحس المعرفي بأبعاده الفنية والميثولوجية ، وتنشط أساسه الفني العام .
التمثيل والفن صنوان كلاهما إبداع للواقع هذا الإبداع قوامه الإحياء والتشخيص ، وأنسنة الأشياء ، لذا يدخل المسرح في التنشئة الأدبية ، ليفوق سائر الوسائط التربوية الأخرى ، فهو أولاً فن جماعي عملي ، ووسيلة سمعية وبصرية ، تعطي النموذج والقدرة ، وتكسب الطفل خبرت رمزية تقوي نفسه الفني ، وتحرك فيه نزعة التقمص ، وتثير فيه الإقناع الفردي عن طريق الانفعال الجماعي .
وذلك أن الطفل يعتمد تفكيره على الحدس والبداهة ، وليس على المنطق أو الواقع ، فهو مثلاً يسبغ الحياة على الشمس ويجعلها تمشي ، لأنها في منطقة تتحرك ، والحركة لا تكون إلا للأحياء . هذه النزعة الإحيائية يمكن لمسرح العرائس أن يكتشفها لدى الطفل ، ويرتقي بها من خلال الدمى ، وكما هو مقرر فالدمية رفيقة الطفل ، لذا يؤنسها ويتقبل منها ما لا يتقبله من البشر ، ومن خلال هذه الصلة يمكن إشباع خياله ، بخاصة أن قوة مخيلته تتناسب عكسياً مع عمره فأي شيء بالنسبة له يمكن أن يصبح دمية صالحة للعب .
وهذا النوع من الإيهام يعد اللبنة الأساسية لبزوغ الموهبة لأنه يعني أن الطفل أصبح ينتمي إلى النمط الفني قادراً على استثمار خياله لتخفيف ما لديه من توتر ، وأنه أصبح أكثر مرونة وذكاء ومهارة في تسلية نفسه . كما أن هذا الإيحاء الذاتي يستنزف طاقته الانفعالية الزائدة ، ويستدرجها خيالياً في لعبهِ التوهمي ، حيث يتخذ رفقاء خياليين من الحيوانات والطيور أو الحشرات ، التي يصيدها ويبثها ما لديه .
والحق إن الأهمية الإبداعية والجمالية لثقافة الطفل ، تبدأ من الاعتراف بالإطار الإبداعي والجمالي للتربية الثقافية الجمالية والفنية ، لارتباط هذه الإطار بموضوع نماء الشخصية الطفلية ، وتفتح مدارك الأطفال وتنشيط الملكية الإبداعية .
بل أن الكثير من المربية يرهنون تحقق الوظيفة التربوية بقابليات التربية الجمالية والفنية ، فقد ثبت نجاعة مثل هذه القابليات في اقتراب أسلم لضفاف الروح وتربية القيم الإنسانية ، وهي في الوقت نفسه أقرب لوجدان الطفل النبيل ، وسلوكه الذي ينمو أساساً وسط الإدراك المعرفي .
تبين التربية الجمالية والفنية أن ثقافة الأطفال جهد تربوي ذو شفافية ، يتوجه إلى رهافة الحس والاحتفاء الصادق ، والمحب بأسمى المشاعر والعواطف ، وإلى النفور من الوعظ والإرشاد ، لتكون حقاً ثقافة رفيعة ، تربي الأطفال على الجيد في حياة الإنسان ، والجمال في حد ذاته صنو الخير والاستهداف المتفهم لأعباء الحياة ، أما الفن وممارسته من قبل الأطفال أنفسهم ، فهو خوض الأطفال المبكر في نهر التجربة الجاري ، والتعرف إلى القيم الشريفة والفاضلة مباشرة ، ليصبح الصغار كبارا ، وهم يكتشفون بالفنون وممارستها رؤية أنقى للعالم ، وهكذا يصبح التقبل المعرفي أيسر مما يقودنا إلى إضاءة بعض عناصر التربية الجمالية والفنية ونذكر منها :
– التوكيد المستمر على أن التربية الجمالية والفنية جزء لا يتجزأ من العملية التربوية المستمرة ولا تلزم هذه التربية مرحلة دراسية بعينها ، بل ينبغي أن توفر التربية العامة للأطفال إمكانات ثراء مناشطها وتنوعها الثقافي ، وعند التطبيق على وجه الخصوص .
– لا تصح أن تظل التربية الجمالية والفنية في حدود تلقي الأطفال لأن مشاركتهم في ممارستها إسهام مبكر في امتلاك رؤيتهم المعرفية للعالم ، فمن المفيد أن ينتج الأطفال منشاطها ، وأن تصدر عن توقعهم المستمر لاكتشاف الأشياء والطبيعة ، وتناغمها مع الإنسان ، ومثل هذا السبيل يفتح الآفاق رحيبة لتربية القيم الإنسانية .
– العناية بتربية الموهبة الفنية وإدغامها بالجهد التربوي العام ، منطقاً للإبداع ، والعناية بتربية الحواس تمهيداً لتربية ملكات أكبر وأولها تربية الرؤية البصرية أو تربية القراءة والمشاهدة ، بمعنى قراءة النص ومشاهدة العرض .
إن تربية الذوق الفني والإبداعي لدى الأطفال تستند إلى خطة للتنمية الثقافية للطفولة مراعية ما يلي :
– العناية بالمصادر الشعبية للثقافة ، ولا سيما الحكايات والقصص والفنون الشفوية لأنها تحمل الخبرة المتوارثة للأمة ، وتعين على الإبداع .
– العناية بالتقاليد القويمة للإتصال الثقافي ، لأنها ينبوع ثري لا غنى في رفع نوعية الذوق لدى الأطفال .
– توفير سبل للانتشار الثقافي والممارسة الثقافية بين الأطفال عن طريق تعزيز قنوات الاتصال بالطفولة ، ويقتضي هذا التدعيم الخطاب الثقافي للناشئة في أجهزة الثقافة ووسائل الاتصال
– تدعيم المؤسسات التربوية ، فيما يجعلها أقدر على تحقيق خطط التنمية الثقافية وبرامجها .
ومن أهم أنشطة التنمية الثقافية لأطفالنا إغناء الخبرات المباشرة بالرحلات والنزهات والزيارات ، وإعطاء الأطفال حرية التساؤل عما يدور في مخيلاتهم وتوفير جو البهجة والتسامح ، والحرية وممارسة النشاط بالرسم والتلوين والموسيقى والتمثيل ، والغناء والرقص والقراءة والألعاب الفردية والجماعية ، وتوسيع خيالات الطفل بسرد القصص والحكايات وعرض الأفلام ، وزيارة البيئة المحلية واقتناء الكتب والقصص ، والمجلات واللعب والأشكال والكمبيوتر وألعابه المتنوعة والتسجيلات ، والتحلي بالصبر في الإجابة عن أسئلة الأطفال والاستماع إلى آرائهم وتقدير أفكار الطفل واحترامه وتقدير ثقافات الشعوب ، وتدريبه على اتخاذ القرار وإبداء الرأي والتفسير والربط والتعليل والانتقاء ، والبعد عن التحيز والتجريب وتأمين الأجواء النفسية المناسبة والمريحة في التعامل مع الكبار أو الصغار أو الأصدقاء .