عندما اعتبرت الشعوذة مقياسا آخر لتخلف الشعوب أو تقدمها, كانت ملجأ للهاربين من واقع متأزم نحو عالم آخر اعتبر متنفسا لعقلية متخلفة… هكذا تدخلت الشعوذة وعششت على واقعنا وبين أحضاننا، واستسلم البعض منا لأفكار لا علمية، أفكار لها منطق خاص.
خضنا حوارات مع مجموعة نساء, جمعنا القدر جميعا في يوم واحد عند عرافات متعددات ولم يكن هذا كافيا, إلا بعد مسائلة بعض العرافات أيضا، لتكتمل الصورة و لنستمتع بالسماع إلى أشياء غريبة ومثيرة.موقع طرطوس
قادني الفضول مرة جديدة في يوم أشرقت فيه أفكار عقلي قبل بزوغ الشمس, غالبت النوم دقائق, وتغلبت، لأن إرادتي في مسائلة إحداهن كانت أقوى من النوم في ليلة خريفية سقيعية ورائعة. رميت الخطوات نحو بيت “الحاجة التيكة” ـ الشوافةـ, لم يكن بابه مغلقا، فقط هناك “خامية” كانت عرضة لحفيف نسمات شتنبر تلوح بها هنا وهناك. كان البيت مكتضا بالنساء على اختلاف أعمارهن ومستواهن الاجتماعي، كان الكل يتحدث للكل، في انتظار مثولهن بين يدي “الحاجة التيكة” التي تستقبل كل واحدة على حدة, حفاظا على خصوصية المشكل ـ كما تردد دائماـموقع طرطوس
جلست جانب إحداهن أكتشف ما سرقه الزمان منها فأتت تسترجعه من هذا المكان، كانت السيدة خدوج لم تتجاوز الأربعين، جميلة وخجولة بعض الشيء، قالت بجدية: “تزوجت منذ أكثر من عشرين سنة, بابن عمي, كنا في البادية وعندما وجد زوجي عملا في المدينة، أتى بنا لنعيش معه، كان عصبيا ويضربني لأتفه الأسباب، لدرجة أن أولادي كرهوا الحياة، وكرهوا أباهم. مرة جاءت جارتي ورأت بعينيها معاملته القاسية لي، وفي اليوم الموالي، أتت و”شبعت فيّ سبّان” وقالت: “ألست امرأة، لماذا تقبلين هذه العيشة، ماذا ينقصك؟” وأقنعتني بأن أذهب إلى الحاجة التيكة ـ باش تقاد ليه الطرح ـ وبالفعل، مباشرة بعد استعمالي لما نصحتني به الشوافة، انقلب حال زوجي وأصبح حنونا وساكتا، ومهما يرى من أمور لا تعجبه، لا يقول شيئا، ـوأنا متبّعة عندها، حتى لا يفلت اللجام من يدي ـ”. إذن الحاجة التيكة تعطيهن لجاما يقدن به الحصان ـأقصد الرجل ـ الذي تحول بقدرة قادر إلى حصان لجامه بيد الزوجة.موقع طرطوس
غير بعيد عنها، كانت تجلس سيدة أخرى، أثارتني بنظراتها الحزينة التي اخترقتني وكأنها تستنكر حديثي معها، بعدها ارتسمت على وجهها ابتسامة ساخرة, وقالت: “أنا لا أومن بالشعوذة، لكن ماذا أعمل، بدأت حياتي تنهار بل انهارت، كنا نعيش بخير وسلام أنا وزوجي، لكن مرت خمس سنوات على زواجنا ولم نرزق بأبناء، في البداية لم يكن زوجي يهتم للأمر, لكن مع (تحراش) أمه وأخواته، أحسست أنه يريد أن يتزوج من أخرى، أنا أحبه ولا أتخيل أن يتزوج من امرأة ثانية ويعاملها كما يعاملني …سأجنّ إن حدث ذلك، اقترحت عليه أن نتبنى طفلا، مادامت هذه إرادة الله، وافقني على الفكرة، لكن مع (التعمار) رفض وقال لي: “ما الذي يجبرني على ذلك، مادمت أستطيع أن أنجب أبناء من صلبي”، لم أستسلم فذهبت عند عدة عرافات، لكن بدون فائدة، فلا زال على حاله، وهذه أول مرة آتي فيها إلى هنا لأجرب حظي مع التايكة وتعمل لي شيئا ينسي زوجي فكرة الزواج، لأني أفضل الموت على الضرة”.موقع طرطوس
لكن ما أثارني وأدهشني لدرجة الضحك والسخرية، هو منظر امرأة طاعنة في السن، تمشي بصعوبة وبالكاد تحافظ على توازنها، عندما كانت تبحث عن مكان لها بين الحاضرات، انتهزت فرصة وجود مكان يتسع لجلوسي قربها، وتحدثت معها، فأخبرتني أنها أمّ تعيش وحيدة رفقة خادمة، بعدما مات أب أولادها الستة، وبعدما تقدم العديد لخطبتها، لكنها كانت ترفض لأنها تفضل أن تربي أبناءها وتعيش على ذكرى زوجها الذي كان طيبا معها ومع أبنائه، ولأن الحال لا يدوم ـ كما قالت ـ تزوج الأبناء الستة بعدما أثبتوا مكانتهم في المجتمع بفضل تضحية وسهر الأم, تزوجوا وتركوها وحيدة ولا يتذكرونها إلا في الأعياد أو المرض، وأتت عند الشوافة لتعمل لها حجابا يعزز علاقتها بأبنائها وأيضا ـ باش تفوسخهم ـ لأنها تشك أن زوجات أبنائها يتعاطين السحر، الشيء الذي أفسد علاقة الأم بأبنائها.موقع طرطوس
خرجت من ذلك المكان ، لأقف عند عتبة أخرى من درج الواقع المرير الذي نعيشه، حيث أخذني البحث إلى بعض الكليات وهناك التقيت ببعض الطلبة ومن بينهم فاطمة الزهراء طالبة بكلية الحقوق بالدار البيضاء، التي عبرت بأنها لا تجد مقياسا أو معيارا أصدق وأدق للتمييز بين رقي الإنسان وتخلفه غير الشعوذة وأنها لا تفهم كيف لامرأة هي امرأة بكل ما تحمله من الأنوثة والوعي أن تسلم العنان للتخلف يفعل بها ما يريد وترتمي نحو امرأة شحنت بمجموعة شياطين لتخبرها الحقيقة وما يحمله الغذ وتعدها بصلاح الحال وقضاء الغرض، مقابل ثروة مالية لا بأس بها، كان من الأجدر أن تنفق على بيتها وعلى أبنائها عوض الضياع والتبذير، وأكدت بأنها تؤمن بالقضاء والقدر والأخذ بالأسباب وتنتظر الغذ بعقل واع.
نفس الرأي زكاه معظم الطلبة بل ذهب البعض إلى مطالبة السلطات بمعاقبة هؤلاء العرافات لأنهن لسن سوى رمزا من رموز الشقاء فمعظمهن يعيش عيشة مأساوية ينعدم فيها الكثير من الضروريات، إذن فكيف أن فاقد شيء يعطيه.موقع طرطوس
ولتتوضح الصورة أكثر، كان لزاما أن أتحدث مع بعض الشوافات، التي قالت لي: “أمارس مهنة الشوافة، ما يزيد عن الثلاثين عاما، وكنت السبب في حل كل المشاكل (الّي كتجيني، وأهم حالة داويتها)، هي حالة شاب مغربي، هربت زوجته من فرنسا إلى المغرب ورفضت الرجوع معه (فماكانتش لخاطرها، وببركة من الله وتوفيقه، ساعدته باش نرجع ليه زوجته)، والآن هما يعيشان بخير وعلى خير”، واستطردت قائلة: “ببركة من الله وحده استطعت أن أساعدهم” ردا على سؤالي السخيف، على أي شيء اعتمدت؟.موقع طرطوس
وعندما سألتها كيف اهتدت إلى هذا الطريق وهل هي سعيدة بهذه المهنة، أجابتني: ” لم أختر هذا الطريق ولكنه فرض علي”، وتنهدت وواصلت: “منذ صغري وأنا أعاني عدم استقرار بيتنا، أبي كان يشرب الكحول بكثرة، ويتزوج ويطلق بكثرة، كان جزارا ودخله جيد، لكننا كنا نعيش الفقر المدقع، وتضطر أمي للخدمة في البيوت، لكي توفر بعض حاجياتنا، أما أبي فلا يعرف عنا شيئا، وكلما حضر للبيت انهال على أمي ضربا وهددنا بالطرد إلى الشارع، ومرة شكوت لأم صديقتي حالنا، فطلبت مني إحضار قطعة من ملابس أبي الداخلية وأشياء أخرى، جمعت كل ما طلبت، ثم أعطتني حجابا وأوصتني أن أضعه داخل مخدة أبي، (وبحالّ كنا كنكذبوا)، ومن تم هدأ البيت وعادت موازينه، لكن مخاوفي لم تهدأ، لذلك أصررت أن أعرف ما وضعته أم صديقتي في الحجاب، وعندما أطلعتني على الأمر (بديت كنصوّب لي وللناس)،( ما كنديرش شي حاجة حرام)، فقط أصلح العلاقات بين الأزواج وبين الأم وأبنائها، وأزيل السحر عن البنات اللواتي لديهن مانع عن الزواج، وأرفض كل ما هو حرام كالتفرقة بين الزوجين وتشتيت الأسر وكل ما فيه مضرة للناس”.موقع طرطوس
كان عالما غريبا وفصلا آخر من فصول ظلم الزمان وقساوة الأيام، شاهدنا فيه كيف تتعلق الأنفس والآمال بأوهام وجدت من يؤمن بها ويعيش لأجلها ويبذل الغالي والنفيس لتحقيقها… نساء على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم الاجتماعية والثقافية .. يصطفون خلف طوابير طويلة في انتظار مثولهم أمام الكهّانات والكهّانين ليطلعوهم عما يخبأ الغد ويعطوهم أشياء تعيد إليهم ما فقد منهم أو حتى يأخذوا أشياء يحلمون بأخذها… ولكن هل الطريق نافع؟ وهل لديه مصداقية حقيقية؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يتخبط جل المشعوذين والمشعوذات في مستنقعات البؤس والفقر والدمار؟.. فكيف أن فاقد شيء يعطيه؟موقع طرطوس