للمناصب مغرياتها وغواياتها المعروفة, التي لها ما لها من تأثير شديد في عقول كثير ممن ذاقوا حلاوتها وجربوا طعمها بنكهته الخاصة, المنطلقة من حب النفس البشرية للقوة والسلطة, والأمر والنهي, إن لم تلجمها الإرادة والتواضع, وقهر الذات, وامتلاك الوعي والضمير اليقظ, والحكمة الفاعلة.
أما أعراض الإصابة بداء المنصب, فهي عديدة ومتشعبة ومتداخلة, منها الظاهرة في الكلام وأسلوب النطق, وفي الحركة الجسدية المتكلفة, والمشية المصطنعة, والجلسة الطاووسية المتعالية, أو المخفية بين طيات العقل والمنطق واللاشعور, حيث لا تظهر إلا في حالات استثنائية فالتة من سيطرة الوعي, كالأحلام, وزلات اللسان, والتحرر السلوكي من رقابة البيئة الاجتماعية واملاءات المنصب وشروط المكانة السياسية أو الإدارية أو المجتمعية عموماً (في الأسفار خاصة).
ونعرف في حياتنا اليومية عشرات الأفراد الذين كانوا قبل أن يتبؤوا المناصب في حال وانقلبوا بعدها إلى حال آخر, من فوق إلى تحت أو من النقيض إلى النقيض, وكأنهم ذابوا في الكرسي واصبحوا هياكل مكملة لتفاصيله أو جزءاً أساسياً من مكوناته, مع نشوة روحية وعاطفية ونفسية لا يحدّها سوى الخوف والقلق الدائم من فقدان المنصب, بصورة مفاجئة أو نتيجة للعمر أو عدم الاستقرار أو ((جهود)) الحالمين ((المكافحين)) بكل طاقاتهم وقدراتهم وأساليبهم للجلوس على الكرسي المرغوب, والاستمتاع ولو إلى حين بخيراته, والانتشاء بسلطته ومغانمه واسمه وعنوانه.
وأسوأ أمراض المنصب تلك التي تنعكس على أوضاع مجموعة من الناس, نتيجة لتفرّد صاحبه بقراراته, أو تكبّره على من يعملون تحت إمرته, وتعمّد إهانتهم وتحقيرهم, والزعم بأنه وحده من يعرف كل شيء ولا يحتاج لمشورة أحد منهم, وعليهم أن يشيدوا (بفضائله) العظيمة, ويتفننوا في إضفاء المحاسن على كل ما يصدر عنه من قول أو فعل, وأن يؤكدوا له دائماً أن هذا المنصب هو الذي تشرف به, بل انه خلق لأجله ولا يصلح أساساً لغيره!!
ومن أعراض المنصب الخطيرة, أن صاحبه ولا سيما إذا كان صغير العقل, ضعيف الإرادة, قليل المعرفة ضحل التفكير…سيرتدي فوراً أقنعة ليست له, مثل اصطناع العلم الغزير, والتفكير العميق, والمعرفة الموسوعية, خلافاً لقوله عز وجل:((وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)), وقوله: ((وفوق كل ذي علم عليم)).
w
وقد قرأت في ((العقد الفريد)) (لابن عبد ربه الأندلسي) أن مقاتل بن سليمان وقد دخلت نفسه أبهة العلم, وما تراءى له من امتلاك المعرفة الواسعة, فقال للجالسين معه: ((سلوني عما تحت العرش إلى أسفل الثرى)), فقام إليه رجل من القوم فقال: ((ما نسألك عما تحت العرش ولا أسفل الثرى, ولكن نسألك عما كان في الأرض, وذكره الّلهُ في كتابه, أخبرني عن كلب أهل الكهف ما كان لونه?!)).. فأفحمه.
وقال قتادة: ما سمعت شيئاً قط إلا حفظته, ولا حفظتُ شيئاً قط فنسيته, ثم قال: يا غلام هات نعليَّ, فقال الغلام: هما في رجليك..ففضحه الله.
وأنشد أبو عمر بن العلاء في هذا المعنى:
من تحلّى بغير ما هو فيه فضحته شواهدُ الامتحانِ
ولهذا نجد نماذج كثيرة ممن غيّرتهم المناصب, فانسلخوا عن طبقاتهم وبيئاتهم, وبدّلوا أصدقاءهم, وتكبروا على أهلهم, واستبدوا بمرؤوسيهم, وتحولوا إلى عبيد لمن فوقهم, مظهرين ألواناً مبتكرة من النفاق والخضوع والمسكنة والمذلة, مع أن خمسة لا بقاء لها: ظلّ الغمام, وجاه المناصب, وهمة الشباب, وثناء المنافق, وجور الظَلَمة.
وأما إعجاب صاحب المنصب بنفسه فهو علة العلل, لأنه ينتج عنها مفاسد كبيرة ومدمرة للذات وللآخرين, مثل الاختيال والغرور, والتكبر والعجرفة, وادعاء التنزه عن الأخطاء, ورفض الاستماع للنصائح ومشورة الصادقين والخلصاء.
ولذلك يبتعد المعجب بنفسه وبقوة منصبه ورفعة شأنه عن مجالس العلم والعلماء, ويظهر ازدراءه لمن يسعون لكسب العلم والمعرفة والثقافة, متوهماً أنه لم يعد بحاجة للمزيد من العلم, أو يخشى – وهذا هو الراجح – من افتضاح جهله وضحالة معارفه, وقلة زاده الثقافي في أوساط ((العامة)), فيلجأ إلى الاحتماء بالكرسي ومتطلباته, والزعم بأنه أعرف وأدرى من مرتادي تلك المجالس والمنتديات العلمية والفكرية والثقافية!!.
وعموماً إذا كان الشجاع لا يُعرف إلا عند الحرب, ولا الحليم إلا عند الغضب ولا الصديق إلا عند النوائب والملمات…فإن الأمين والحليم والشجاع والشريف والوفي والعفيف هو من وليّ منصبا فأمن الناس شره, وحلم عمّن دونه, وأظهر شجاعته عند من فوقه, وبانت خصاله الشريفة في تواضعه وفعله للخير, وكان وفياً لأصدقائه وإخوانه, وعفَّ عن قوة وطهارة وإرادة, لا عن ضعف وخوف وجبن.
د.خلف الجراد