الاستماع إلى الموسيقى أثناء الاستذكار نموذجا
وفق نتائج تتبع عمل الدماغ بدقة، وخلافاً لما يُمارسه البعض لتفتيح الذهن، فإن الاستماع إلى الموسيقى أثناء محاولة تعلم شيء علمي أو أدبي جديد، له أثر سلبي على خزن تلك المعلومات في الدماغ وقدرة استحضارها لاحقاً. وفي محاولة منهم لإعادة الأمور إلى الطريقة الطبيعية بالدليل العلمي، يقول الباحثون النفسيون من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس إن الحيرة الذهنية التي تعتري الإنسان جراء انشغال الدماغ بأداء مجموعة من المهام أثناء التحصيل التعليمي الأكاديمي أو غير الأكاديمي، هي أمر يُؤثر بشكل سلبي على قدرات الدماغ في الاستيعاب، ويضطر آنذاك إلى استخدام أنظمة غير معتادة في حفظ المعلومات. وأن أفضل ما يُمكن للمرء فعله كي يرفع من قدرته على استيعاب ما يُحاول تعلمه وتذكره لاحقاً، هو أن يبذل تركيزاً واهتماماً ذهنياً دون أن يكون محاطاً بأي عوامل تعمل على تشتيت أو تشويش الذهن.
وهذا البحث يعرض جوانب طالما لا يتم التنبه إليها حول دور الطب النفسي والتقدم العلمي المطرد في أبحاثه في مدى استفادة الناس بكافة أطيافهم منه في جوانب شتى من الحياة العملية. والذي هو في الواقع عنصر مهم في الفهم والتوجيه السليم نحو كيفية تفاعل النفس والذهن مع مجريات أحداث الحياة اليومية في حال التمتع بصحة نفسية جيدة وكذلك أيضاً في حال اعتلالها ومرضها.
* التركيز والتشتت الذهني
* النتيجة التي خلص إليها الباحثون وردت في معرض شرحهم لدراستهم التي نشرت في عدد أغسطس من مجلة الأكاديمية القومية للعلوم بالولايات المتحدة. ويقول فيها الدكتور راسل بولدراك المشارك في البحث بأن على المرء إدراك أن الانشغال بأداء مهام متعددة يُؤثر بشكل عكسي على كيفية التعلم ومدى الاستيعاب فيه. وأن المرء حتى لو نجح في التعلم واستيعاب المعلومة آنذاك، فإن العملية نفسها ستكون شاقة على الدماغ وغير سلسة ومرنة. والأهم أن محاولة استرجاع المعلومات تلك حين الحاجة إليها بعد ذلك لن تكون عملية سهلة. وأن عملية التعلم في مثل تلك الظروف المشتتة للذهن، وخاصة للأمور التي تتطلب تركيزاً ذهنياً بالعادة كمسائل الرياضيات أو فهم الشعر القديم كالذي لشكسبير، لأن الأمر سيتطلب من الدماغ، كي ينجح فيها، أن يستخدم طرقاً ذهنية وأنظمةً دماغية مختلفة عن تلك المعتاد استخدامها في تعلمها بشكل عام.
المشاركون في الدراسة كانوا في العشرينات من العمر. وخضعوا في الدراسة إلى تجربة التعلم عبر اتباع أسلوب بسيط في التقسيم والتصنيف مبني على المحاولة والتخمين، التي إما أن يُصيبوا فيها وإما أن يُخطئوا. وطُلب منهم أن يقوموا بتخمينات ذهنية بعد أن أعطيت لهم عدة تلميحات من المعلومات في بطاقات ذات أشكال مختلفة مقسمة إلى نوعين. وتعلموا محتوى معلومات نصفها دون أن يتعرضوا إلى أي تشتيت ذهني، والنصف الباقي منها تعلموا محتواها أثناء تعرضهم لجملة من الأمور المشتتة للذهن وتركيزه، كالاستماع إلى أصوات ذات نغمات عالية أو منخفضة عبر سماعات وضعت على الأذنين.
وبالرغم من أن التشتيت والتشويش الذهني لم يقلل من قدرتهم على تعلم الأمور المذكورة في تلك البطاقات، بدليل أنهم نجحوا في إبداء التوقعات الصحيحة أثناء مراحل التجربة المقارنة بين كلا المجموعتين. مما يعني أن الإنسان قادر على التعلم في وجود تلك الظروف المشتتة. إلا أن ذلك التشتيت والتشويش قلل من قدراتهم على القيام بتكرار نفس المستوى من دقة الإجابة وتذكر المعلومات التي تم تعلمها، وذلك حينما سئلوا عنها لاحقاً. أي أنهم بالنتيجة لتلك الظروف الذهنية المشتتة أصبحوا أقل قدرة على تذكر ما تعلموه، مقارنة بذاكرة وإجابات من تعلموا نفس الأمور دون التعرض للتشويش أو التشتيت.
* نشاط الدماغ التعليمي
* الذي قام الباحثون به في تقييم آلية تعامل الدماغ مع الحالات المختلفة من الصفاء أو التشتيت الذهني أثناء عملية التعلم، هو استخدام تقنيات التصوير بالرنين المغناطيسي للدماغ وأنشطة مناطقه المختلفة وهي تُؤدي وظائفها المتعددة. وهي تقنيات عالية ومعقدة، تستخدم مجالات مغناطيسية في تحديد مستوى نشاط مناطق الدماغ تلك، ومدى الزيادة في تدفق الدم المحمل بالأوكسجين إليها.
ومن هذه الطريقة في تقييم أي من مناطق الدماغ التي تنشط ويتدفق إليها الدم بشكل أكبر، وبالتالي تستهلك كمية أعلى من الأوكسجين، تبين للباحثين أن هناك طريقين مختلفين في حفظ المعلومات وخزنها في الذاكرة فيما بين حالة الصفاء وبين حالة التشويش أثناء التعليم. وهو ما علق عليه الدكتور بولدارك بأن النتائج تدل على أن تعلم الحقائق والأفكار سيكون أسوأ حينما يتم ذلك في حالات التشتيت والتشويه الذهني.
ولإيضاح ما يقصد فإن الدماغ يستخدم، لحفظ المعلومات في الذاكرة، نظامين مختلفين. وهو ما سبق لي عرضه في موضوع الذاكرة بملحق الصحة للشرق الأوسط في عدد الأسبوع الماضي. أحدهما لحفظ معلومات الذاكرة التوضيحية declarative memory وهي المعلومات التي يبذل الإنسان جهداً واعياً في تعلمها وحفظها كأرقام الهواتف ورقم رخصة قيادة السيارة وقصائد الشعر وغيرها. وهذا النوع هو الذي يتأثر لدى مرضى خرف الزهايمر من ناحية التذكر ومن ناحية القدرة على التعلم والحفظ في الذاكرة. والثاني لحفظ معلومات الذاكرة الضمنية أو الإجرائية procedural memory، وهي مثل عناصر أداء المهارات كتعلم قيادة السيارة أو لعب التنس أو العزف على البيانو أو غيرهم من المهارات. وهذا النوع من المعلومات يتطلب تنشيط أماكن في الدماغ غير تلك التي تُستخدم في النوع الأول من الذاكرة. ولذا فإننا نلحظ بأن مرضى باركنسون يصعب عليهم تعلم مهارات إجرائية جديدة. والتشويش الذهني بالأصوات كما يقول الدكتور بولدارك يُؤثر على عملية حفظ معلومات الذاكرة التوضيحية دون معلومات الذاكرة الإجرائية.
وأضاف بأن منطقة قرن أمون hippocampus في الدماغ، التي يشبه شكلها فرس البحر، تلعب دوراً هاماً في عملية فهم وتحليل وخزن واستحضار المعلومات من نوع الذاكرة التوضيحية. ولحفظ المعلومات، في حال عدم وجود تشتيت أو تشويش، فإن هذه المنطقة من الدماغ تُستخدم. أما في حال وجود تشويش وتشتيت للذهن، فإن منطقة قرن أمون لا تُستخدم، بل تُستخدم منطقة أخرى تُدعى المنطقة المخططة striatum ، وهي نفس المنطقة التي تُستخدم في نظام حفظ معلومات اكتساب المهارات الإجرائية. وهي منطقة تتأثر لدى مرضى باركنسون، ولذا يقول الدكتور بولدارك بأن مرضى باركنسون يجدون صعوبات في تعلم المهارات الحركية العملية الجديدة، بينما لا يصعب عليهم تذكر الأحداث من الماضي.
ويقول بأننا بينا من نتائج التصوير الوظيفي لمناطق الدماغ المختلفة بالرنين المغنطيسي أن التشتيت والتشويش الذهني يجبر الدماغ على استخدام المنطقة المخططة في التعليم وحفظ المعلومات، بمعنى أنه يغير طريقة تعلم الإنسان والأنظمة الطبيعية في الدماغ لحفظ المعلومات. أي يجبر دماغ المرء على سلوك طريق غير عادي لحفظ المعلومات الإيضاحية، مخصص بالأصل لحفظ المعلومات الحركية والمهارات وليس للمعلومات الإيضاحية.
واستدرك الباحثون بالقول إنهم ليسوا ضد فكرة التشويش الصوتي عند تعلم أشياء جديدة. فالاستماع إلى الموسيقى على حد وصفهم يُمكن أن يُعطي للناس طاقة وترفع من مستوى تنبههم، مثل أثناء ممارسة الرياضة البدنية. لكن عملية التلقي لأول مرة لمعلومات من النوع التوضيحي كالأرقام والمحاضرات العلمية أو الأدبية ومحاولة خزن معلوماتها في الذاكرة، يتأثر بشكل سلبي بالاستماع إلى الموسيقى آنذاك. ويختصر الدكتور بولدارك نصيحته المستخلصة من نتائج الدراسة بأن يلتزم المرء بالتركيز أثناء الدراسة والمراجعة كي يتم له الفهم والاستيعاب والحفظ للمعلومات، وبالتالي استحضارها، بطريقة طبيعية وسهلة.