مئات آلاف السوريين نزحوا من المدن المنكوبة بالحرب إلى مدن الساحل، وبينهم كثير من الأطفال. فهل يشكل هؤلاء عبئا على السكان المحليين وعلى أهلهم؟ وكيف يتدبرون سبل العيش؟
بعض الأطفال استطاعوا تجاوز الصدمة، بعدما أنضجتهم الحرب سريعاً، فتعلموا مواجهتها بالجد واللعب. ففي إحدى ورشات العمل بضواحي اللاذقية، يعمل ثلاثة أطفال حلبيون: عبد الوهاب وفياض وعبد الرحمن. حيث يقومون بتجميع قطع الألمنيوم وشد البراغي لتشكيل شباك، وأحيانا يفكون بعض القطع القديمة ليعيدوا تجميعها مرة الأخرى ليتقنوا عملهم. ويهملون عملهم أحيانا ليخرجوا للعب بالكرة مع أطفال في الخارج أو عند انقطاع التيار الكهربائي. وينصرفون لمتابعة دراستهم بجدية الكبار.
ليس عجوزا ولكنه عاجز
عبد الوهاب، 12 عاماً، هو أكثرهم حركة وحيوية وتوزيعا للابتسامات. يقول إنه وصل إلى اللاذقية منذ عامين مع شقيقتيه ووالديه. يعاني والده من نقص شديد في السمع والنظر، مما صعّب عليه أمر العثور على عمل في اللاذقية، فاضطر الوالد للبحث عن عمل لابنه ذي السنوات العشر في ذلك الوقت. لكن النجار الذي وافق على تشغيل “عبدو” اشترط عودته إلى الدراسة، والعمل بعد المدرسة، وتم الأمر. وعند سؤاله عن سبب مغادرتهم حلب، رفع حاجبيه مستغربا السؤال، ثم أجاب ساخرا: “أكيد بسبب الحرب. صارت القذائف تنزل بكل مطرح. لم أستطع الذهاب إلى المدرسة لعامين. لكن هنا استطعت العودة إلى المدرسة”. ويتابع حديثه من دون أن ينتظر أي سؤال آخر:” أنا سعيد بالعمل هنا، لكني أحب المدرسة أكثر، سأصبح طبيبا عندما أكبر، سأعالج جرحى هذه الحرب. علاماتي في المدرسة جيدة” وعندها خطر ببالي أن أسأله:” هل فقدت أحداً بسبب القذائف؟” أجاب:” لم نكن نستطيع الخروج واللعب، لم أذهب إلى المدرسة، وقتلوا عمي..” – من قتله؟ فيهز كتفيه ويقول بلهجة جدية مختلفة تماما عن اللهجة التي تحدث فيها سابقا:” لا أعرف، لقد قتلوه… ضربوه حتى مات…. فخرجنا من حلب”، وصمت.
أما فياض، 12 عاماً، فيحاول أن يخفي ابتسامته ليبدو أكثر جدية، خاصة أنه فخورٌ بنفسه هذه الأيام بعد أن تفوّق في مدرسته وحل في المرتبة الأولى على صفه. غادر فياض حلب منذ ثلاث سنوات مع أسرته المكونة من ولدين وفتاتين، إضافة إلى والديه. يعمل والده جاهدا لتأمين احتياجاتهم ودفع أجرة المنزل وما إلى ذلك، ويعمل هذا الطفل لدعم والده، ولأنه “رجّال” حسبما قال. ويروي فياض تفاصيل حياته في آخر عامين قضاهما في حي هنانو بحلب:” كان تقع اشتباكات بشكل مستمر في حارتي، وأخذ المسلحون مدرستي، وسقطت قذيفة في بيت جيراننا ومات بعضهم. لم يكن الخروج مسموحاً لأي أحد منا سوى لوالدي، لكنني كنت أتسلل لألعب قليلاً ولأعرف أخبار الاشتباكات. في البداية، كنت أخاف من أصوات الانفجارات، لكني اعتدت عليها فيما بعد”.
ومع ازدياد حدّة الاشتباكات، قررت أسرة فياض النزوح باتجاه اللاذقية. ويتذكر فياض خروجه من الحي “حملنا أغراضا كثيرة، كل ما استطعنا حمله وخرجنا. كان عدد الناس النازحين من الحي كبيراً، كان الرصاص والتفجيرات في كل مكان، وكان أخوتي وأمي يبكون، لكن أنا ووالدي لم نكن نبكي..”
هل يلعب الجائع؟
ويقول فياض إنه أحب اللاذقية، ولكنه يحب حلب أيضاً فهو مشتاق لرؤية أصدقائه هناك واللعب معهم مرة أخرى في حاراتهم. فسألته لماذا لا تلعب هنا؟ أجابني: “يجب أن أعمل لنأكل، وبعدها نلعب، هل نستطيع اللعب ونحن جائعون!”.
أما عبد الرحمن فهو وافد جديد إلى اللاذقية- منذ ثلاثة أشهر فقط، لا يرغب في الحديث على الإطلاق. أخبرني، بعد إلحاحي في الأسئلة عليه، أنه من طريق الباب، وأنه ترك المدرسة منذ سنوات ولا ينوي العودة للدراسة، ولم يجب عن أي سؤال آخر.
وعندما سألتهم:” عندما ستنتهي الحرب هل ترغبون في البقاء باللاذقية أم ستعودون إلى حلب؟” كان أول من أجاب على السؤال عبد الرحمن الذي صاح سنعود إلى حلب، تلاه عبد الوهاب بالإجابة نفسها، لكن فياض تردد قليلاً ثم أجاب سارحاً: “أنا أريد هنا وهناك” فضحك عبد الرحمن وقال له:” يعني بدك تظل عالطريق؟”
RT