موقع طرطوس

سلوك العنف في المدرسة

منذ الساعة الحادية عشرة صباحاً يبدأ استفسار كبير في القوى الأمنية وتبدأ الدوريات بالتزود بأجهزة وأدوات مكافحة الشغب فيظن المرء أن هذا الحشد الأمني الكبير يتجه لاحتواء تظاهرة احتجاجية غاضبة .

لكن المشهد يتكرر يومياً وترى الكادر الأمني المدجج بأسلحة مكافحة الشغب يتوزع بكثافة على أبواب المدارس عند انصراف الطلاب في أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية كافة ومن أولى مهامه إبقاء أكثر من ربع مليون مسدس حربي قابع في حقائب طلاب المرحلة الثانوية حتى لا تستخدم ذخيرته الحية .موقع طرطوس

وبدأت الحاجة إلى التدابير والإجراءات الأمنية نفسها تظهر في فرنسا لدرجة لجأت عندها الحكومة الفرنسية إلى بناء خطة أمنية حرصت على إحاطتها بالسرية التامة حفاظاً على مقوماتها وبدأت بعض مظاهر التنفيذ منذ عام 1979 تظهر بتشكيل مركز أمني وصحي لكل 75 مدرسة قوامه عدد مناسب من رجال الأمن مزودين بالسيارات والتجهيزات اللازمة لمكافحة الشغب وعدد من سيارات الإسعاف وكثافة في عدد الممرضات دون نسيان ترتيب زيارات وعظ وإرشاد لعدد من مشاهير الفن والرياضة للقيام بحملات توعية وإرشاد في المدارس وبشكل منتظم للتخفيف من حدة العنف المتنامي في المدارس .موقع طرطوس

وقد وصف أحد الأختصاصيين الاجتماعيين مهنة التعليم في فرنسا بأنها من أكثرالمهن التي تسبب الشقاء والتعاسة للعاملين فيها . أما عن مهنة التعليم في أمريكا فيقول ( جيلبرت هايت ) في كتابه فن التعليم ( ومنذ حوالي نصف قرن ) .

( عرفت بضعة مدارس في نيويورك كان رجال الشرطة يستدعون أحياناً ليساعدوا العلمين على متعلميهم أو ليحموهم منهم ) إذا فلسفة العنف ليست جديدة في المجتمع الأمريكي .موقع طرطوس

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال حول دور المدرسة ( الأوروبية عموماً والأمريكية خصوصاً ) وموقفها من سلوك العنف الذي تربيه في سلوك المتعلمين شيمة فينعكس على مدخلات العملية التربوية قيمة تفيض بآثارها السلبية لتطال المجتمع ويتلاشى الاستغراب عندما نعلم بأن كل مدخلات العملية التربوية قد تم توجيهها لتشكيل السلوك الذي يؤمن بالحرية الفردية كقيمة مطلقة فأتت المخرجات منسجمة مع الأهداف المرسومة ورحنا نشهد ونسمع كل يوم عن هذا الشكل أو ذاك من أشكال العنف وهي تمارس داخل الحرم المدرسي وخارجه في نسق اجتماعي مأزوم أخذ العنف يستنزف قسماً كبيراً من جهود التنمية الاجتماعية والاقتصادية لديه .موقع طرطوس

وبدلاً من مساهمة المدرسة بحل أزمات المجتمع فإنها تحولت إلى أزمة تثقل كاهل المجتمع لا سيما أن العنف يمكن أن يكون نتيجة قادت إليها بعض ممارسات الحرية لكنها الحرية التي تمتد خارج نطاق ضبط النفس فتشوه القيم وتؤزم السلوك وتطلق أشكالاً مختلفة من العنف المضاد الذي يحكم أركان النظام ويهدم صروح القوانين في مسيرة البحث عن الذات وبناء المجد الشخصي . موقع طرطوس

مدارسنا والعنف :

لم تعد المدرسة المصدر الوحيد للمعرفة . وقد استطاعت أجهزة الإعلام المرئية منافسة المدرسة في بعض أدوارها لا سيما تلك المرتبطة بنظم الحاسوب والتي لم تعد تنافس المدرسة فحسب بل استطاعت تبديد هالة القدسية التي كانت تحيط بها في زمن أصبح العالم عنده قرية صغيرة ضغطت فيه الأزمنة وقلصت المسافات وتراجعت تجارة الذهب والدولار أمام تجارة المعلومات وتدنت القدرة على التكيف عند الإنسان لما يعانيه من مفارقات وزادت الضغوط النفسية عليه وتثلمت معظم أسلحته التي عادة ما تكبح جماح النفس عند الغضب فأصبح يثور لأتفه الأسباب .

وهكذا بدأ الطفل يدخل المدرسة وهو مزود بقدر لا بأس به من ثقافة العنف تزود بها من مصادر عدة أهمها بعض برامج التلفزيون والألعاب التي تنفذ على شاشته أو شاشة الحاسوب والتي تعمل على  ( كرتنة ) السلوك وتعليب مخرجاته .موقع طرطوس

وقد شكل عجز القائمين على الشاشة الصغيرة عن إنتاج أفلام وبرامج للأطفال مناسبة مع قيمنا وتوجهاتنا نحو المستقبل فراغاً ملأته دور الإنتاج الخاصة عموماً والأمريكية خصوصاً لما تملكه من تكنولوجيا متطورة في هذا المجال توظفها في دورة رأس المال الذي يلهث وراء الربح لذلك تمحور كل توجهاتها نحو إنتاج خلطات برامجية قائمة على تركيبة يتفاعل فيها العنف مع الجنس ضمن حبكة تغازل العقل وتثير شهوته للتحدي من خلال ما تحتويه من غموض يبنى في النفس استعداداً كبيراً لإتباع المذهب الغائي ( الغاية تبرر الوسيلة ) من مدخل التضامن والتعاطف مع البطل في مواجهته للشر والظلم خارج إطار رقابة وسيادة الأنظمة والقوانين ويمكن أن يكون هذا المحور من أخطر المحاور المنتجة للعنف في المجتمع لما يبنيه من إسقاطات ذات توافقية كبيرة ترتبط إيجابياً مع أماني النفس وطموحاتها في حالة يتضخم التناقض فيها ما بين الرغبة وبين الإمكانات والقدرات اضمن منظومة اصطدام الأحلام بموضوعية الواقع  وإن تأزما لنفس في هذه الحال يولد ضغطاً من العنف يبحث عن أوهى المبررات ليوجه باتجاه المجتمع متخذاً أشكالاً وصوراً شتى رهناً بالموقف المولد للعنف .موقع طرطوس

دور المعلمين في منظومة العنف :

–          لماذا الضرب ممنوع في المدارس ؟
–          هل العصا من الجنة ؟
–          هل تصلح لأيامنا هذه مقولة ( لك اللحم والعظم لي ) ؟!
أسئلة يتعامل معها المعلمون بمنطق المشكلة الصالحة للإستهلاك إثر كل موقف يدخل أحد أشكال العنف فيه .

وكثيراً ما تتحول فترة الاستراحة إلى تظاهرة احتجاج سليمة هادئة يتنافس فيها المعلمون حول صوابية قرار منع الضرب في المدارس ويقومون بتجنيد حشد كبير من الأدلة التي تعارض هذا القرار إلى درجة وأد أي فكرة لمشروع أو مقال يناقش جوانبه الإيجابية ويبحث عن الطرق الممكنة للحد من هذه الظاهرة والتخلص من ممارسة العنف داخل الحرم المدرسي وما مردُّ هذه المعارضة إلا لأن اللجوء إلى العنف أو التهديد باستخدامه يبقى أقصر الطرق وأسهلها لفرض وجهة نظر منحازة تستخدم قوة النظام لمخالفة ذات النظام .موقع طرطوس

ونتيجة لذلك فإننا كثيراً ما نرى الإدارة أو المعلم أو المتعلم في موقف يلجأ كل منهم فيه إلى حل تناقضات النظام المدرسي بيديه وبصورة شخصية مستخدماً مفردات الحل التي تميل لاستخدام هذا الشكل أو ذاك من أشكال العنف الكثيرة بدءاً من التوبيخ والشتم والتهديد وانتهاءً باستخدام العنف الجسدي الذي يؤذي النفس بمثل ما يؤذي الجسد أو أكثر .

الحرية والعنف والتربية : يشكل مفهوم الحرية قاسماً مشتركاً تطالب به كل شرائح المجتمع لأنه حصن للكرامة ومدخل لأي بناء سليم يسعى إليه الصغير والكبير ، المتعلم وغير المتعلم . ولهذا فإن معظم العلمين يعتبرون الحرية قضية أساسية لا تستقيم أمور المجتمع دونها لكن هذه الأولوية التي يعطونها للحرية لا تبتعد كثيراً عن مصدر الأزمة بل إن معظم مشاكلنا تنبع من هذا الانفصام الاجتماعي الذي نعاني منه والذي ابتلينا به عندما ابتعدنا عن ممارسة الحرية على الأرض ورفعناها شعارات ما فتئت . تنهال على رؤوسنا التي أثقلها الظلم والتسلط عبر التاريخ .موقع طرطوس

وعندما فتحت لنا نافذة لممارسة الحرية من خلال بوابات التطوير والتحديث التي ولجناها رحنا نستنهض الماضي ونستذكره بلهفة وشوق وكثيراً ما نسمع في هذا الشأن هذا المعلم و ذلك يقول :
عندما أخذني والدي لأبدأ مشوار حياتي المدرسية سلمني إلى المدير وهو يوصيه ( الوصية التي تحطم روح الإنسان وتصادر حريته وتغتصب مستقبله ) وكأني ما أزال أسمعها من والدي وهو يوصي بها الأستاذ الذي سيعلمني : اللحم لك والعظم لي ؟ّ … اللحم لك والعظم لي !!!!!موقع طرطوس

وبدلاً من ممارسة الحرية وتحمل مسؤوليات ممارستها داخل الحرم المدرسي ، فإننا ما زلنا نتعامل معها بمنطق يقترب كثيراً من منطق الشعارات ومازال الخوف . الذي تربينا عليه وفق مقولة ( اللحم لك والعظم لي ) يمنعنا من ممارسة الحرية بشكلها الملتزم وبدلاً من ذلك فإننا نلقي بمسؤولية خوفنا على غيرنا . مازلنا نميل إلى المواقف التي تجمد فينا مستنقع الدائرة أو المجلس الذي لا يتحدث فيه إلا الشيخ . مازلنا لا نطيق سماع كلمة ( لا ) من متعلم أو معلم حتى ولو كانت في موقف حق .

وباحتفاظهم بمثل هذه القيم فإن مربينا يسعون دون أن يدرسوا لتنميط الجيل ومحاربة التنوع فيه وقبوله المجتمع بشكل يسهل على الطامعين تحديد مواطن ضعفه وإحكام الطوق منها عليه وهنا يمكن أن تلمس المبررات لأحد رواد الفكر التربوي عندما قال : ( ما جدوى التعليم إذ كان يمنح المتعلمين كثيراً من القدرة وكثيراً من المعارف ولكنه يحكم أرواحهم أو يضللها أو لا يصلح الموجود من العيوب فيها ) ؟!!موقع طرطوس

بعض محددات التكامل في تربية الحرية :

1–      الحرية والعنف والسلوك :
إن أهم مقومات تربية الحرية يتمثل في ممارستها قولاً وفعلاً وبشكل ملتزم ومسؤول في إطار المجتمع المدرسي المصغر ومد روابط الاتصال مع المجتع الأصلية واتجاهاته ومعتقداته النبيلة والمدرسة هي الأقدر على توصيف العنف ضمن مظومة السلوك الإنساني الذي يستند على دوافع ويقم بإشباع حاجات والقيام استناداً لهذا التوصيف بالتخفيف المنهجي والمدروس من هذه الدوافع وفتح الآفاق أمام أنواع حضارية من الممارسات لإشباع بعض الحاجات كحرية التعبير وسماع الرأي الآخر واحترامه وفسح المجال أمام الاعتراض على عقوبة أو قرار . وفتح ممارسة كل ذلك داخل الحرم المدرسي تمهيداً لتعليم مخرجات هذا السلوك في المجتمع الكبير .

2–      المناهج المدرسية :
ومدى مناسبتها ومراعاتها لحاجات وقدرات المتعلمين وخصائصهم النفسية ومدى ارتباطها بالحياة داخل جدران المدرسة وخارجها في المجتمع لأن المناهج إذا لم تحقق كل ذلك فإنها تولد إحباطاً والإحباط يولد العنف .

3–      البناء المدرسي :
من حيث التنظيم وتوفر الخدمات القادرة على إشباع الحاجات التربوية  والإنسانية فيه ضمن منظومة قادرة على تنظيم الحرية وتحييد دوافع العنف والتخفيف منها ويكفي أن يقدم مثال واحد عن عدد صنابير المياه اللازمة للشرب التي إذ نقص عددها إلى نسبة معينة فإنها ستشهد تدافعاً كبيراً من قبل المتعلمين للإنتفاع بها وبالطبع فإن التدافع سيولد احتكاكاً منتجاً للعنف .موقع طرطوس

4–      العلاقة بين المتعلم والمدرسة :
وهل يجري العمل على بناء هذه العلاقة بالشكل الصحيح الذي يصور علاقة المواطن بالوطن ضمن مجتمع تسود فيه العدالة التي تنظمها القوانين القادرة على احتواء العنف دون أن تستثمر قدرتها هذه وتوظف في التسلط والتحكم بالآخرين وضمن مجال يدرك فيه المعلم أن مقاومة المتلعيم لأوامره وقراراته هي دليل قوة وصلابة وصحة نفسية إذا مامورست في مواقف ذات تطلعات صحيحة لكن بشرط أن يبقى زمام الأمر بيديه ويبقى قادراً على احتواء هذه المقاومة والسيطرة عليها حتى لا تتحول إلى سلسلة من التحديات تستثير العداوة وتنحدر إلى حد ممارسة العنف .موقع طرطوس

إن الدور الكبير الذي تقوم به المدرسة لا يؤتي أكله إذا لم تؤازره مؤسسات المجتمع كافة في منظومة مرنة تتكامل الأهداف المرشسومة بأقصر الطرق وأسرعها وأقلها كلفة وضمن استراتيجية يتم فيها تعزيز الدوافع التي تربى الحرية المسؤولة في المواطن فيكون حراً في سلوكه دون قيود وملتزماً بقيم المجتمع ومبادئه دون حدود .

Exit mobile version