كثيرة هي تلك الأشياء المستحدثة التي اخترعها الإنسان لتسهيل أمور حياته ومعاشه ، ولتزيد من رفاهيته ، فأصبح يعتمد عليها اعتماداً كبيراً لدرجة إنه لم يعد يتصور أن حياته يمكن أن تستمر بدونها ، أو على الأقل أنها ستكون شديدة الصعوبة وسيعاني فيها كبير المعاناة من غيرها ، وذلك بالرغم من أن حياته كانت تسير بهدوء وانتظام قبل وجودها ، ولم يكن يشعر بحاجته إليها ، فالكهرباء ، السيارات ، الطائرات والهواتف النقالة على سبيل المثال أصبحت جميعها جزءاً لا يتجزأ من حياتنا ، وأصبحنا لا نتخيل مجرد التخيل كيف سيكون نظام الحياة لو لم تكن موجودة . فهل يمكننا اعتبار الإنترنت واحدة من هذه الأشياء ؟ هل يمكننا أن نعيش بدون إنترنت ؟
كثيرٌ هم الذين سألوا أنفسهم هذا السؤال ، إذ أنه يوماً بعد يوم ، تزداد أعداد المتصلين بالإنترنت حول العالم ، وتزداد ساعات الاتصال بها ( خصوصاً مع ظهور التقنيات الحديثة التي مكنت من زيادة سعة وسرعة الاتصال ) كما وتزداد أيضاً أشكال وأنواع استخدامات الإنسان لها ، ففي كل مرة يستعمل الإنسان هذه الشبكة حاصداً فوائدها وقاطفاً لثمارها ، يشعر في نفسه بالإمتنان لأولئك الأشخاص الذين ساهموا في إيجاد هذه الشبكة ، وفي توفير خدماتها للناس جميعاً . وقد سمعت كثيراً على ألسنة بعض الناس ممن حولي عبارات الشكر لله على أنهم خلقوا في عصر الإنترنت ، فالإنترنت أصبحت اليوم جزءاً لا يتجزأ من حياة الناس ، يستخدمونها في جميع مناحي الحياة المتنوعة : التراسل عبر البريد الإلكتروني ، العمل ، الدراسة ، التسوق ، المحادثة ، الترفيه ، أي أنها أصبحت بالنسبة لنا جميعاً . وخصيصاً قراءة هذه المجلة ، من الضروريات التي لا يمكننا الاستغناء عنها .
وقد تعرضت لهذا السؤال في الواقع واحدة من محاكم الاستئناف في الولايات المتحدة الأميركية ، ففي إحدى القضايا المقامة على شخص بتهمة ممارسة دعارة الأطفال عبر الإنترنت ، حيث كان يتبادل صوراً خلاعية عبرها ، حكمت محكمة الدرجة الأولى على هذا الشخص كتدبير إحترازي يشكل جزءاً من العقوبة . بالمنع من استخدام الحاسب والإنترنت كامل مدة عقوبته . والتدبير الاحترازي قانوناً هو إجراءٌ يمكن فرضه من قبل القاضي بحق الشخص الذي ارتكب جريمة معينة ، لتفادي إمكانية ارتكابه لها مرة أخرى . فالذي يرتكب جريمة باستخدام سلاح مثلاً ، يمكن أن يفرض عليه كتدبير احترازي المنع من حمل السلاح والاستحصال على رخصة باستعماله عدداً من السنين . والذي يرتكب جريمة تحت تأثير المسكرات . يمكن منعه من ارتياد الخمارات كذلك مدة معينة بعد خروجه من السجن .
استأنف هذا الشخص المحكوم عليه حكم محكمة الدرجة الأولى أمام محكمة الاستئناف ، فثبتت محكمة الاستئناف الحكم في جميع فقراته ، ما عدا تلك الفقرة المتعلقة بالتدبير الاحترازي يمنعه من استخدام الإنترنت حيث قررت أن حرمان الشخص من استخدام الحاسب والاتصال بالإنترنت يعتبر إجراء شديد القسوة لا مبرر له ، حتى ولو فرض على شخص كان الحاسب الوسيلة الأساسية لارتكاب جريمته وفي تسببها للنتيجة التي توصلت إليها . ذكرت المحكمة في منطوق حكمها ما يلي : إن المنع من الاتصال بإنترنت كلياً يمنع الشخص من استخدام البريد الإلكتروني ، تلك الوسيلة التي يتزايد استخدامها يوماً بعد يوم كأحد أهم وسائل الاتصال . كما ويمنعه أيضاً من الاستخدامات العديدة المفيدة والشائعة للحاسب ، مثل القيام بعملية البحث عن المعلومات ، الحصول على تقارير عن حالة الطقس أو قراءة الصحف والمجلات عبر إنترنت .
أي أن محكمة الاستئناف ، وكما يستخلص من حكمها ، قد اعتبرت الإنترنت ضرورة علمية من ضروريات الحياة ، وليست مجرد رفاهية أو مصدراً من مصادر التسلية فقط . فالناس بإمكانهم أن يحصلوا على المعلومات وأن يتراسلوا فيما بينهم بدون استخدام الإنترنت . غير ان ذلك سيشكل عائقاً وصعوبة لهم ، وسيؤدي منعهم من استخدامها إلى حرمانهم وعزلهم من مصدر هامٍ من مصادر المعلومات والتواصل مع الآخرين ، وإن هذا الحرمان كما ارتأت المحكمة يضر بهؤلاء المجرمين بالمجتمع أكثر من نفعه ، إذ أن عزلهم سيؤدي إلى تأخير عملية إصطلاحهم وإعادة تأهيلهم ، أي أن المنع من استخدام الإنترنت كعقوبة ، يعتبر إجراء قاسياً وشديداً ، ومن الممكن اعتباره مخالفاً لحقوق الإنسان .
إن الحكم المذكور يطرح على بالنا تساؤلاً مجرماً عن استخدام الإنترنت ، على الرغم من أنه استخدمها كوسيلة لارتكاب جريمته ، لأن ذلك يعتبر مخالفاً لحقوق الإنسان . فكيف الأمر بمجتمعات كاملة وطبقات إجتماعية معزولة كلياً عن استخداماتها وفوائدها ! إن هذا الحكم يعيد طرح مشكلة الفجوة الرقمية التي تتواجد بين أولئك المتصلين بالإنترنت ، والذين غالبيتهم من الأغناء ، وغير المتصلين بها ، وغالبيتهم من الفقراء . فهل يمكن أن نقبل عزل هؤلاء عن الإنترنت وحرمانهم منها لمجرد ارتكابهم جريمة الفقر ! إن المشكلة تتزايد يوماً بعد يوم ، وتتفاقم آثارها بازياد عدد الخدمات المقدمة عبر الإنترنت ، واتساع وتنوع مجالات استخداماتها . فهل يمكننا أن نتخيل كم سيصبح ضرورياً اتصالنا بالإنترنت بعد خمس سنوات من اليوم مثلاً ؟