آلام الظهر شائعة جدا , وأسبابها متباينة , ولكي نوضح آلية الحركة ومصدر الألم في الظهر فإنه من الضروري إعطاء فكرة عن طبيعة تشريح وظائف العمود الفقري . والعمود الفقري يتألف من فقرات متصلة ببعضها بعضاً , بواسطة أقراص غضروفية فقارية من الجهة الأمامية ومرتبطة من الجهة الخليفة ببعضها بعضاً من خلال مفاصل تدعى السطيحات الملساء المفصلية البارزة , وهناك العديد من الأربطة تربط الفقرات ببعضها لتثبيتها كاملة . ويشكل الجزء العلوي من هذه الفقرات قناة قابلة للثني تقوم بحماية الحبل الشوكي شديد الهشاشة , وهنالك فتحات بمحاذاته تسمح ببزوغ وانبثاق الجذور العصبية , علما بأن العمود ليس مستقيماً بالكامل وبه انحناءات طبيعية تقوم بدور مهم في حالتي السكون والحركة . وهذه الانحناءات غير موجودة في الأطفال الرضع حديثي الولادة , ولكنها تظهر عندما يبدؤون في السير , وتسيطر عضلات العمود الفقري على حركاته ويتحكم بها جهاز عصبي ذاتي تلقائي التوجيه .
مصادر آلام الظهر عديدة ومنها : الفقرة العظمية بذاتها , والقرص الغضروفي والأربطة , والحبل الشوكي والجذور العصبية وعضلات العمود الفقري , وكل مسبب يتداخل ويتراكب مع مسبب آخر .
عندما يكون الألم بأسفل الظهر وسببه الفقرة العظمية ذاتها :
بعض المسببات نادرة ويسهل تشخيصها أمثال الكسور , وعواقب وآثار الكسور , والأورام ( الحميدة أو الخبيثة ) , وأكثر المصادر الشائعة لآلام الظهر لدى المرضى من كبار السن سببها مسامية وتخلخل العظام وترققها , ويحدث هذا بصفة رئيسية للنساء بعد توقف الطمث ولكن ليس بشكل محدد .
ويكون الألم بهذا الشكل بسبب نقص الكاليسوم في العظام مع تشوه محتمل حتى وإن كانت هنالك كسور متناهية الصغر ودقيقة داخل الفقرة نفسها . إذ أن هذه الكسور الدقيقة تحدث ضعفاً شديداً وانهياراً متقدما لجسم الفقرة العظمية ذاتها , كما تؤدي إلى زيادة فرصة حدوث تحدب وتقوس في الظهر , وهو عبارة عن ” زيادة الانحناء الطبيعي عند مستوى الفقرات الظهرية ) مؤدية بذاتها لمزيد من الضغوط والإجهاد على بنية الهيكل العظمي الهش بطبيعته .
وأفضل طريقة لتقييم حالة هشاشة وترقق العظام هي القيام ” بفحص قياس كثافة العظام ) الذي يظهر المقدار الدقيق لعنصر الكالسيوم في بنية الهيكل العظمي , ومعالجة مسامية العظام تتم من خلال مجموعة من العوامل مجتمعة تتضمن ( أدوية معينة ومحددة , والكالسيوم , وفيتامين د . إلى جانب العلاج الطبيعي ) . وفي هذه الأيام مع الأخذ في الاعتبار احتمالية حدوث مضاعفات لتخلخل العظام مثل حدوث كسور في الفقرات القطنية أو الظهرية للعمود الفقري فإن الطريقة المثلى هي المعالجة الوقائية قبل أن يبدأ تخلخل العظام لدى النساء اللواتي يتوقفن عن الطمث .
وفي هذه الحالة يتم وصف المعالجة الهرمونية البديلة والتي ليست خطرة مطلقاً وبها فوائد متعددة . ولكن من الأفضل الاستشارة الطبية من قبل استشارية النساء والولادة قبل البدء في معالجة مثل هذه الحالة وفي هذا الخصوص .
وهنالك مصدر آخر مسبب للألم بأسفل الظهر هو الفقرة العظمية ذاتها , وهو ما يطلق عليه ” انزلاق الفقرات ” والذي يمكن مقارنته بالكسر , غير أن الكسر في هذه الحالة غير ناجم عن صدمة أو إصابة مباشرة , وإنما عن الضغط والإجهاد وزيادة عبء المجهود الواقع على هذا الجزء من العمود الفقري , ويمكن رؤية هذا الاعتلال بوضوح من خلال صور الأشعة الاعتيادية , وبسبب هذا الكسر ( غير المباشر) يمكننا رؤية الجزء الأمامي للفقرة الذي لا يحتمل الصمود وبالتالي تنزلق الفقرة إلى الجهة الأمامية , وتكون المعالجة بحسب حدة ودرجة الانزلاق , وتتراوح المداواة العلاجية ما بين المعالجة التحفظية غير الجراحية ( المعالجة الدوائية والعلاج الطبيعي ) إلى المعالجة الجراحية .
الألم بأسفل الظهر وسببه اعتلال القرص الغضروفي أو الأربطة أو مجموعة مفاصل الفقرات :
يتوجب أن تؤمن مجموعة مفاصل الفقرات هذه القوة الآلية المركزية لأي نشاط ناجم عن حركة العمود الفقري . يتألف القرص الغضروفي من كرة صغيرة لنوع من الجيلي محاطة بحلقة ليفية , وهي معرضة للتلف بفعل الاحتكاك أو التمزق أو الجفاف , لذا فهي تفقد ليونتها المطلوبة ضرورياً للقيام بوظائفها على الوجه الأكمل . وبسبب بعض ميزات وخاصيات حالات ضعفها ووهنها , فإن الضغط الذي يحس به القرص الغضروفي يعطي نفس الألم وكأنه واقع الجذر العصبي . أما فيما يتعلق بالمفاصل المسطحة الملساء والأربطة ( التي تشد الفقرات من الجهة الخلفية ) فتنطبق عليها نفس الصورة الوصفية , وفي حالة التهاب المفاصل ( وهو عبارة عن تآكل وتناسخ الطبقات الغضروفية المبطنة للمفاصل العظمية , وليس الالتهاب بمفهومه التقليدي) المسطحة الملساء المفصلية , فإن الألم يرتبط عادة بالأنشطة الجسمانية ولكنه يمكن أن يظهر أيضا في وقت الراحة عندما تسترخي العضلات , وهو يكون من الشدة بحيث يمكنه ايقاظ المريض من نومه ليلاً , وقد اعتدنا أن نطلق على هذه الحالة المرضية ( عدم استقرار العمود الفقري ) . ومعالجة التحفظي ( غير الجراحي ) إلى جانب العلاج الطبيعي , وفي بعض الحالات الشديدة يتوجب التدخل العلاجي الجراحي .
عندما يكون الألم بأسفل الظهر بسبب اعتلال مرضي في الحبل الشوكي والجذور العصبية :
يؤمن العمود الفقري الحماية الآلية الميكانيكية للأجهزة والأوعية العصبية مثل الحبل الشوكي والجذور العصبية , وقد يقع عليهما الضغط من قبل مواد الأقراص الغضروفية أو النتوءات العظمية أو بسبب تضيق قناة العمود الفقري في المنطقة القطنية , يسبب الضغط رد فعل التهابي مع انتفاخ الجذر العصبي الذي بدوره سيزيد الضغط والألم بذات الوقت .
وسوف تتفاوت الأعراض المرضية طبقاً لمستويات الضغط الواقع على الأعصاب . وأن أكثر هذه الأعراض الشائعة تقليديا هي ( آلام العصب الوركي أو ما يطلق عليه عرق النسا) المصاحب لآلام أسفل الظهر الناجم عن ألم القرص الغضروفي وامتداد الألم في الطرف السفلي .
( الساق التي بها العصب الوركي المؤلم ) بسبب الضغط الواقع على الجذر العصبي , سواء أكان اعتلالاً عصبيا بمنطقة هذا الجذر العصبي أو لا .
والعلاج التقليدي لألم العصب الوركي ( عرق النسا ) هو الراحة والأدوية المضادة للالتهاب التي تنقص حجم الانتفاخ في الجذر العصبي , وعندما تقل حجم الانتفاخ في الجذر العصبي وعندما تقل حدة الألم يبدأ العلاج الطبيعي للمريض , وإذا لم تكن المعالجة فعالة وذات جدوى , وبالمستوى المطلوب , فسوف تعقبها دراسة إمكانية التدخل العلاجي الجراحي .
وقد تجرى مثل هذه العمليات الدقيقة جدا باستعمال عدسات مكبرة , لا تؤمن الأداء الآمن فقط بل النتائج الحسنة أيضا .
عندما يكون الألم في أسفل الظهر ويعود إلى اعتلالات عضلية :
وتراكيب العظام والعضلات مصممة بحيث تتلاءم آلياً مع الوزن الاعتيادي , والعضلات مهمة لكي تدعم التركيب الانثنائي ( قابلية الثني ) للعمود الفقري . وتتمركز هذه العضلات في الظهر وعلى الجوانب والجهة الأمامية .
وتعزي زيادة الثقل على عضلات العمود الفقري إلى قصور وضعف عضلات الجدار البطني المندمجة مع التجاويف الدهنية , ويؤدي هذا الوضع إلى زيادة شدة الشد التواتري لعضلات العمود الفقري المطلوب بهدف التوازن مع عبء الثقل المتصاعد من خارج المركز المحوري . والعلاج في هذه الحالة سوف يستهدف العضلات والزيادة في حجم الشحم والدهن .
وفيما يتعلق بزيادة الشحم فستكون المشورة الطبية لكل مريض على حدة حسب درجة الحالة وهنالك اختيارات متعددة للمعالجة . وفيما يتعلق بمعضلة الضعف والوهن العضلي يمكن حلها بالتمارين المنظمة للعضلات .
وآخر نوع من الاعتلال المرضي أود التحدث عنه وهو ما يطلق عليه ( الاعتلال العضلي الوتري متعدد الجوانب ذو العوامل الخارجية ) الذي وصفه بشكل دقيق وجيد قبل عدة سنوات البروفيسور الدكتور رينيه لويس رئيس أشهر أقسام جراحة العمود الفقري في فرنسا .
ووصف هذا الاعتلال المرضي تمت برهنته تماماً والاعتراف به في الولايات المتحدة الأمريكية . وهو يتواجد لدى الذين يواجهون ضغوطاً اجهادية عملية ويقعون تحت تأثيرات وتوترات نفسية في حياتهم . ومن وجهة النظر السريرية يمكن تعريف بعض الأعراض المحددة الدقيقة جدا . والخطر الكثير الذي يواجه الأطباء بالنسبة لهؤلاء المرضى هو معرفة بعض الحدود الفاصلة لأمراضهم بالصور الإشعاعية وصور الأشعة المقطعية وفحوصات الرنين المغناطيسي حيث من الممكن أن تقود هذه الصور إلى عمليات جراحية عديمة الفائدة تفاقم بدورها من حدة حالة المريض .
وقد أظهرت الاحصائيات الأخيرة التي جرت في فرنسا وأمريكا أن %25 على الأقل من آلام الظهر مردها إلى الاعتلال الوظيفي الحياة – عملي أي ( الاعتلال العضلي الوتري متعدد الجوانب ذي العوامل الخارجية ) وليس بسبب أذية مرضية حقيقية .
ونستنتج من خلال هذا العرض الموجز خلاصة طبية مفادها : بأن أعظم خطوة يجبب اتخاذها بشأن المريض الذي يعاني من آلم الظهر هي إجراء الفحص والتقييم الطبي السريري الدقيق جدا , مستكملاً بالفحوصات الإشعاعية اللائقة والمناسبة مثل صور الأشعة الاعتيادية القياسية أو التنظير بالأشعة المقطعية أو التصوير الإشعاعي بالرنين المغناطيسي حسب الحالة المرضية الاعتلالية التي نبحث عنها .
ويتوجب علينا الأخذ في الاعتبار انه من الضروري أن يكون عملنا الطبي وإجراءاتنا العملية الطبية العلاجية أو الجراحية مرتكزة في المقام الأول على الحالة الاعتلالية المرضية للمريض نفسه وليس التركيز على صور الأشعة سالفة الذكر ونفس الأعراض المرضية للمريض نفسه حيث يكون هذا الخطر قد تزايد مع الطرق الجديدة للصور الإشعاعية , لأنها تستطيع أن تجزم وتؤكد لنا صحة التشخيص ولكنها لا تقوم بتشخيص المرض بذاتها .