موقع طرطوس

ما هي أكثر بقعة مُشبعة بالمياه على وجه الأرض؟

هناك العديد من البقاع التي تغمرها المياه أو تهطل عليها الأمطار على وجه الأرض. ولكن أي بقعة منها تستحق أن تُتوج بوصفها الأكثر “تشبّعا بالمياه” على الإطلاق؟

وهكذا فعندما يُطرح السؤال عن موقع مثل هذه البقعة، فربما ستشكل منطقة “ماريانا ترنش” أو “خندق ماريانا” إجابة نموذجية.

فما من شك في قدر التشبع بالمياه الذي تتسم به تلك المنطقة، وهي البقعة الأكثر عمقا على الإطلاق بين البقاع الواقعة في قيعان محيطات الكرة الأرضية، إذ يعلوها ما يزيد على 10 آلاف متر من المياه.

ولكن إذا ما كنت بصدد الحديث عن أكثر المناطق تشبعا بالمياه على البر، فإن الأمر هنا يصبح أكثر تعقيدا.

فبحسب موسوعة غينيس للأرقام القياسية في العالم، تحمل اللقب في الوقت الراهن مجموعة قرى صغيرة في الهند تحمل اسم “موسينروم”.

فكميات بخار المياه، أو الرطوبة بالأحرى، التي تنبعث في الأجواء قادمة من منطقة خليج البنغال تتكاثف فوق تلك القرى الواقعة على هضبة يبلغ ارتفاعها 1491 مترا، وتقع على مرتفعات خاسي المطلة على سهول بنغلاديش.

وينتج عن ذلك هطول أمطار يصل متوسطها السنوي إلى مستويات مذهلة تناهز 11871 ميلليمترا (467.35 بوصة).

ويعني هذا المعدل أن التمثال الأضخم في العالم، والذي يحمل اسم “المسيح الفادي” ويوجد في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية بطول يبلغ نحو 30 مترا، سيغمره الماء حتى ركبتيه إذا ما وُضع في ذلك الحجم من المياه.

ولذا فليس من المستغرب أن تتسم الغالبية العظمى من أنحاء هذه المنطقة بالخصوبة، وأن تتناثر في أرجائها الأشجار والنباتات، فضلا عن ثرائها بالشلالات المائية، والكهوف الخلابة المنحوتة في الحجر الجيري بفعل المياه المتدفقة من أعلى هذه الشلالات.

وعلى بعد عشرة أميال إلى الشرق من تلك المنطقة، تقع بلدة تشيرابونجي، التي يعرفها السكان باسمها التقليدي “سوهرا”، وهي البلدة التي تحمل لقب ثاني أكثر بقعة مطيرة على وجه الأرض.

رغم أن المتوسط المسجل للأمطار التي تهطل على تلك البلدة يقل عن نظيره في مجموعة قرى “موسينروم” بنحو 100 ميلليمتر، فإن “تشيرابونجي” تستأثر لنفسها بالعديد من الألقاب الأخرى، فلا تزال حتى الآن هي البقعة التي شهدت الشهر والعام الأغزر أمطارا منذ بدء تسجيل البيانات المتعلقة بهذا الأمر.

فقد بلغ حجم الأمطار التي هطلت على البلدة خلال يوليو/تموز1861 نحو 9300 ميلليمتر (366 بوصة). كما أن “تشيرابونجي” شهدت منذ أغسطس/آب من العام الماضي، وحتى الشهر نفسه من هذا العام هطول ما يصل إلى 26470 ميلليمترا (1042 بوصة) من المياه، وهو ما يتجاوز المتوسط القياسي السنوي المسجل في هذا الشأن.

وتوجد هاتان البقعتان المطيرتان على نحو استثنائي في ولاية ميغالايا الهندية، التي يعني اسمها باللغة المحلية “دار الغيوم”. ويتنقل سكان هذه الولاية وهم يحتمون بمظلات على شكل قواقع، تُنسج من أعواد البوص وتحمل اسم “نوبس”.

وتوفر هذه المظلات الحماية لأجسام من يرتدونها بشكل كامل لتقيهم الأمطار التي لا تتوقف، حتى يتسنى لهم القيام بأنشطتهم اليومية؛ والتي يتمثل الجانب الأكبر منها في إصلاح الأضرار التي خلّفتها الأمطار في الطرق والمباني، أو ممارسة المقايضة بهدف الحصول على طعام. فضلا عن ذلك، أدت الأمطار الغزيرة إلى جعل الزراعة في هذه المنطقة أمرا مستحيلا، ولذا تُباع المنتجات المزروعة في المناطق الأكثر جفافا في أسواق مُغطاة بالقماش المشمع.

ويشكل الحفاظ على الجسور التي تمتد عبر الغابات المطيرة المحيطة بهذه البقاع المطيرة إحدى المشكلات الجسيمة التي تعاني منها تلك المناطق، في ظل التحلل السريع لمواد البناء التقليدية التي تتشكل منها هذه الجسور.

تقوم الفكرة المبتكرة التي تُشيّد على أساسها مثل هذه الجسور في ربط هياكلها بجذور الأشجار نفسها بما يجعلها قادرة على مواجهة ظروف الطقس المُشبّع بالرطوبة.

وفي هذا الإطار، تُستخدم أشجار المطاط الهندي (فيكس المطاطية) التي تنبثق من جذوعها جذور ثانوية تتسم بالقوة والمرونة. ويتم تضفير هذه الجذور لربطها ببعضها البعض عبر المجاري المائية والأنهار من قبل سكان المنطقة، الذين يستعينون بالجذوع المجوفة لأشجار نبات التنبول، كأنابيب حاوية لتلك الجذور لضمان أنها ستواصل نموها في الاتجاه الصحيح دون أن تحيد عنه. ثم يتم بعد ذلك جدل الجذور والجذوع حول بنى مؤلفة من أعواد الخيزران.

وتنمو هذه الجذور بقوة أكبر ما إن تصل إلى التربة؛ على الضفة الأخرى من النهر أو المجرى المائي الذي تعبر فوقه. وهكذا فعندما تتحلل أعواد الخيزران في نهاية المطاف، تبقى تلك “الجسور الحية” قائمة.

ويستغرق الأمر نحو عشر سنوات لتشييد “جسر حي”، ولكن مثل هذا الجسر قادر على البقاء لمئات الأعوام، بل يُقال إن أقدم الجسور المعروفة من هذا النوع في المنطقة شُيّد قبل أكثر من 500 عام.

ورغم أنه يبدو أن تلك التجمعات السكنية الواقعة على مرتفعات خاسي تستحوذ لنفسها تماما على لقب أكثر البقاع التي تهطل عليها المعدلات الأعلى من الأمطار في التاريخ؛ كان هناك تكهنات في الآونة الأخيرة حول إمكانية أن تكون هناك بقاع أخرى أحق بهذا اللقب.

وتأتي المنافسة الرئيسية في هذا الشأن من منطقتين تقعان في كولومبيا، ولكن يتعذر فنيا المقارنة بينهما وبين البقاع المطيرة الموجودة في الهند.

وتشكل بلدة “يورو” الواقعة شمال غربي كولومبيا أحد هذين المكانين. وقد بلغ المتوسط السنوي لحجم الأمطار التي هطلت على مزرعة قريبة منها في الفترة ما بين عامي 1952 و1954 نحو 13473 ملليمترا. ورغم أن هذا المعدل يفوق وبكثير نظيره الذي ينهمر على مجموعة قرى “موسينروم” الهندية، فإنه سُجِّلَ باستخدام أدوات قياسٍ عفا عليها الزمن، إلى حد يحول دون أن يمكن تلك البلدة من أن تدعي لنفسها شرف الحصول على لقب أكثر بقعة مطيرة في العالم بشكل رسمي.

أما المكان الآخر، فيقع – حسبما يقول الخبير في تاريخ الأحوال الجوية والطقس كريستوفر سي برْت – على الجانب الآخر من جبال الأنديز، ويتمثل في بلدة يمكن أن تصبح أشبه ببركة عامرة بالمياه، إذا ما تحدثنا عن معدلات هطول الأمطار القياسية المسجلة في العالم.

ويقول برْت: “في واقع الأمر، تمثل (بلدة) بويرتو لوبيز الكولومبية أكثر بقعة مطيرة في العالم؛ بمتوسط سنوي لهطول الأمطار يبلغ 12892 ميلليمترا (507.56 بوصة)”.

لكن البيانات المتعلقة بمعدلات هطول الأمطار على تلك البلدة – والتي سُجِلّت على مدى أكثر من نصف قرن – غير صالحة للمقارنة مع نظيرتها التي تخص بقاعا أخرى في العالم، والتي سُجِلّت على مدى 30 عاما دون انقطاع. السبب في ذلك – كما يقول برْت – يتمثل في أن السجلات المتعلقة بمعدلات انهمار الأمطار على “بويرتو لوبيز” غير كاملة، نظرا لوجود بيانات مفقودة بشأن معدلات انهمار الأمطار خلال العديد من الشهور الواقعة ضمن فترة التسجيل.

غير أن برْت يرى أن بوسعه القول وبثقة إن المتوسط السنوي للأمطار التي تهطل على بويرتو لوبيز يفوق عادة ذاك الذي يسقط على “موسينروم”، وذلك بالنظر إلى طول الفترة التي جرى خلالها تسجيل معدلات هطول الأمطار على هذه البلدة الكولومبية، وكذلك عدد السنوات مكتملة البيانات المتوافرة في هذا الشأن.

وتغمر الأمطار هذه البلدة على مدار العام بفضل موقعها القريب من سفوح جبال الأنديز الشمالية التي تمتد في المناطق الغربية من كولومبيا.

ويوضح برْت هذا الأمر قائلا :”هناك تيار هوائي استوائي مُشبّع بالرطوبة يهب باستمرار من المحيط الهادئ.. تصد الجبال هذا التيار، وينتج عن ذلك هطول الأمطار بشكل دائم تقريبا على بويرتو لوبيز. أعتقد أن هناك في المتوسط أكثر من 320 يوما مطيرا في كل عام. وتتوزع معدلات سقوط الأمطار – بشكل أو بآخر – على نحو متساوٍ على مدار أيام السنة”.

وما من شك في أن تحديد المواقع التي تتوزع عليها الأمطار المتساقطة على مكان ما، يمثل العامل الحاسم فيما يتعلق بالتعرف على أكثر بقعة مطيرة على وجه الأرض.

ويتعين القول هنا إن ثمة فارقا واضحا ما بين الحديث عن البيانات الخاصة بمتوسط هطول الأمطار على منطقة ما واحتمالية أن يصاب المرء بالبلل إذا ما زار هذه المنطقة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تؤدي زيارتك إلى منطقة “موسينروم” الهندية إلى أن تغرق تماما في مياه الأمطار، بينما قد تخرج من زيارة مماثلة لبويرتو لوبيز دون أن يبتل منك على الأرجح سوى فردتيّ حذاءك من فرط الخوض في الوحول.

وحتى وقت قريب، سُجِل أكبر معدل لهطول الأمطار في غضون 48 ساعة خلال إعصار استوائي ضرب جزيرة ريونيون الواقعة في المحيط الهندي. وأثار ذلك تساؤلا مفاده: هل يمكن أن تتربع جزيرة ريونيون على قمة قائمة البقاع المطيرة في العالم بفضل حدث واحد ينطوي على أحوال جوية سيئة على نحو استثنائي مثل ذلك الإعصار؟

ولكن هذه الفكرة نُحيت جانبا في ربيع عام 2014، عندما خلصت لجنة شكلتها المنظمة العالمية للأرصاد الجوية إلى أن منطقة “تشيرابونجي” تحمل حاليا لقب المنطقة التي تحظى بالرقم القياسي لأكثر كم من الأمطار سقط في غضون 48 ساعة، وذلك في ضوء هذه الكمية المذهلة من المياه التي سقطت عليها خلال يومي 15 و16 يونيو/حزيران من عام 1995، والتي بلغت 2493 ميلليمترا (98.15 بوصة).

يعيدنا ذلك إلى ولاية ميغالايا الهندية، التي تعود جذور شهرتها كمنطقة مطيرة إلى الرياح الموسمية ذات الصيت الأسطوري. وتؤدي هذه الرياح الموسمية، التي تُوصف بأنها “رياح سائدة”، إلى سقوط أمطار شديدة الغزارة كل عام على مناطق في جنوب وجنوب شرق آسيا.

وبفعل هذه الرياح، يهطل ما يصل إلى 90 بالمئة من الأمطار – ذات المستويات القياسية التي تنهمر على ” موسينروم” – خلال ستة شهور فحسب، وهي تلك الممتدة ما بين مايو/أيار وأكتوبر/تشرين الأول. ويشكل يوليو/تموز الشهر الأغزر مطرا على الإطلاق، إذ أنه صاحب الرقم القياسي العالمي في هذا الشأن بمتوسط يزيد على 3500 ميلليمتر (120 بوصة).

ولكن المنطقة لا تشهد سوى سقوط أمطار محدودة للغاية خلال شهور فصل الشتاء الجاف؛ اعتبارا من ديسمبر/كانون الأول وحتى فبراير/شباط من كل عام.

وهكذا فعندما يعاني السكان الأمرين للحصول على مياه صالحة للشرب في تلك الفترة؛ يصبح لقب “أكثر بقعة مطيرة على وجه الأرض” الذي تحوزه ولاية ميغالايا بمثابة مفارقتها الكبرى في الوقت نفسه.
BBC

Exit mobile version