بدأت الحفريات في مدينة شوشان الإيرانية منذ أكثر من مئة سنة ومع هذا ما زال العلماء الجيولوجيون يكتشفون فيها حتى اليوم آثاراً عجيبة تدل على تجمعات من البشر قديمة العهد جداً .
تقع مدينة شوشان في منطقة صحراوية لا تعطيها أهمية كبرى من الناحية السياحية .ولكن المهم في هذه المدينة هي الحفريات القائمة فيها والتي ملأت آثارها أعظم متاحف العالم .موقع طرطوس
في سنة 519 قبل الميلاد اتخذ داريوس مدينة شوشان عاصمة له على أثر انتحار الملك قمبيز بن آشور وانهيار مملكته . لكن هذه المدينة كانت آهلة بالسكان منذ 4000 آلاف سنة قبل الميلاد حيث اخترع فيها لأول مرة فن الكتابة المعروفة بالكتابة البرولامية . بعدئذ حلت محلها الكتابة السامورية ، نسبة إلى سامور الذي احتل هذه المدينة في سنة 2700 قبل الميلاد ، ثم انتقلت إلى سلطة ملك بابل حتى سنة 420 حين تسلم داريوس الحكم وبنى فيها قصره الشهير على أنقاض القصور التي بناها الآشوريون قبله . وهكذا مرت السنون والأجيال وبقيت هذه المدينة الأثرية ضائعة في ذلك السهل الرملي .
أول من لاحظها
دامت هذه المدينة في عالم الغيب والنسيان حتى العام 1851 عندما مر قربها العالم الأثري الفرنسي لوفتوس وكان في عداد لجنة بريطانية روسية تهتم بتخطيط الحدود الإيرانية التركية فتذكر أهمية هذه المدينة وعاد اليها سنة 1853 ليجري فيها الحفريات بغية اكتشاف آثارها القديمة . بعد هذا التاريخ كلف المهندس الفرنسي مارسيل ديولافوا دراسة مشاريع الري في تلك المنطقة فصعق عندما اقترب من مدينة شوشان وترك مشاريعه وسافر ثم عاد إلى المدينة بصحبة فرقة خاصة بالحفريات . وأخذ يعمل مع فرقته حتى ملأ متحف اللوفر بالآثار العجيبة .موقع طرطوس
وإزاء هذه النتيجة الباهرة عقدت حكومة فرنسا إتفاقية خاصة في سنة 1894 مع الحكومة الإيرانية للتنقيب عن الآثار وتولى الحملة آنذاك جاك دي مورغان فاكتشف سوراً كبيراً عاليا تبلغ بسماكة جدرانه الثلاثة أمتار وفي داخل السور ساحة كبيرة واسعة وبعد هذا السور قصر لا مثيل له في العالم من حيث الضخامة والنقوش والحفريات التي تزينه ، هذا بالإضافة إلى الأواني الجميلة التي بقيت مطمورة بين الأطلال .موقع طرطوس
وقبل أن تجري الحفريات كان الموضع يمتد على طول 36 مترا ويتألف من تلتين متقابلتين : في الأولى بقايا قصر واسع يسمى ” ابادانا” وفي الثانية مركز للسكن وللموظفين وحاشية القصر ويسمى ” أكروبول” تتبعه على هضبة مجاورة المدينة الملكية التي كانت مركز الفنانين .
لم يبق إلى اليوم إلا القليل من آثار ” الابادانا” لأن الحرارة أذابت القرميد والاسمنت والأمطار جرفت بقاياها . وأما الجدران مبنية من القرميد المجوف وبهذا صعب على الجيولوجيين تحديد مكان هذه الجدران .ولكنهم تصوروا الحياة المنظمة التي كان يعيشها الملك في هذا القصر من قاعات الاستقبال إلى أروقة الحرس ، إلى غرفة الولائم . وقد أصبح اليوم كل شيء جليا بعد أن أعيد تخطيط أساسات الجدران وتبين للعلماء أن التصميم الجديد المفترض يشبه تصميم قصر نبوخذ نصر الثاني الذي بناه في بابل بعد مرو قرن على بنار قصر داريوس في شوشان .موقع طرطوس
وتجدر الإشارة هنا إلى موقع أبواب القصر وكيفية فتحها وإغلاقها . ولنفترض أن هناك غرفتين متقابلتين يفصلهما ممر واحد فإذا وجد الملك في أحداهما يقفل بابا الغرفتين تلقائيا وإذا فتح أحدهما يفتح الثاني معه والاثنان يسدان الممر الذي يخرج منه إلى الغرفة المقابلة . ومما يشهد على ذلك موقع هذه الأبواب حتى اليوم وكومات الحجارة القائمة قربه والتي ما زالت مطمورة حتى يومنا هذا . ونلاحظ أيضاً الثقب الكبير الذي كان يرتكز عليه قوام باب كبير يبلغ عرض أحد مصراعيه الأربعة أمتار وفي أعلاه تجويف مربع محشو بالرصاص حيث يظهر قوام من البرونز . والاعجب من هذا كله الطاولات التي مطمورة على مدخل غرفة صغيرة وهي مصنوعة من حجر كلسي رمادي ، شكاها مربع عليها خطوط مسمارية ما زالت بحالتها الطبيعية .موقع طرطوس
ولننزل الآن من التلة الاولى ونتوقف عند مستوى نهر شاغور كي نزور القصر الجديد الذي اكتشفه علماء الآثار الفرنسيون على الضفة الثانية من النهر وعلى بعد خمسمائة متر من قصر داريوس . ابتدأت البعثة الفرنسية بالعمل في شتاء 1970-1969 وبعد أحد عشر أسبوعاً تم اكتشاف ما مساحته 1650 متراً مربعاً ولم تكن هذه المساحة إلا قسماً من ذلك البناء الضخم .موقع طرطوس
ومما لفت النظر بنوع خاص وجود قاعة كبيرة طولها 39 مترا وعرضها 36 متراً مع ثمانية صفوف من ثمانية أعمدة قاعدة العمود مستديرة وتتصل هذه القاعة الكبيرة من ثلاث جهات بالحهات الأخرى بواسطة بوابات قائمة على أعمدة أيضاً بحيث يبلغ مجمعها مائة عمود . والغريب في الأمر أن هذه الأعمدة مصنوعة من الخشب المطلي بالجبس .
لماذا بني هذا القصر
ما هي الغاية من هذا القصر ؟ ملكية أكيدا . من بناه إذا ؟ .. الملك احشورش الثاني الذي اكتشف اسمه على قاعدة أحد الأعمدة . وقد بناه ليقيم فيه بصورة مؤقتة ريثما ينتهي من ترميم قصر كبير مجاور كان لأحد أجداده ولكنه تداعى بسبب الحريق . على بلاط القصر المربع ما زلنا نرى النقوش الصفراء والحمراء وبعض الرسوم مما يدل على أن الشمس والامطار لم تؤثر فيها رغم مرور 2400 سنة على وجودها .
أن انتفاخ الأرض الممتد نحو الجهة الشمالية يثبت لنا أن مساحة القصر كانت كبيرة جدا ويلزمنا مدة ثلاث أو أربع سنوات للانتهاء من الحفريات واكتشاف معالمه كاملة .
لو اجتزنا النهر وقرية سوش المجاورة له لوصلنا إلى الاكروبول والمدينة الملكية وهناك نرى أن الحفريات قائمة في الطبقات السفلى من الأرض بواسطة خنادق كبيرة يبلغ طولها 80 مترا وعرضها 60 مترا . ومن أهم الاكتشافات التي ظهرت الأواني الخزفية التي تعود إلى آلاف السنين هذا فضلاً عن الجرار والأفران التي ما زالت معالمها ظاهرة تحت الاطلال وكل هذا يدلنا على ولادة التجمعات البشرية في العصور الاولى من التكوين .